مقالات بدايات

صورة الجلاد وصورة الضحيّة في الحرب

30/03/2015

في الوقت الذي تصيب فيه صورة الجلاد أهدافها بتفنن وتضخيم، تبقى دائماً صورة الضحية ضعيفة ومكلفة وغير قادرة على تحقيق هدفها كاملاً بل وغالباً ما تقوم باستهلاك الصورة التي ينتجها الجلاد فتتوسع رقعة متلقي صورة الجلاد.

الكاتب: روي ديب

 

منذ اندلاع الثورة السوريّة والنقاش دائر حول أهميّة الصورة، جدواها، وكيفيّة التعامل معها.

في هذا المقال نحاول المشاركة في النقاش من زاوية مختلفة، متناولين معضلة قوّة الصورة، أهدافها، جمهورها وسهولة أو صعوبة منالها، لنصبّ فيما يعرف ضمن مصطلحات الصورة بال " Hors Champ " (خارج حقل الصورة) إذ تتوفر فيه المشكلة وفي الوقت ذاته إقتراح الحلّ للمعضلة المطروحة.

 

قوّة الصورة:

 

إن التاريخ، وللأسف، أثبت لنا أن الصورة في وقت الحرب تكون قويّة في يد الجلاد القويّ، وضعيفة في يد الضحية الضعيفة، سواء كانت تلك الصورة حقيقيّة أم زائفة. وإذا أخذنا مثال الصورة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يبدو لنا ذلك جلياً. 

منذ النكبة حتى اليوم، تمّ إلتقاط جميع أنواع الصور للقضية الفلسطينيّة ، الدمويّة منها إلى تلك الخاليّة من الدماء ولكن المعبّرة. فعلى سبيل المثال، تعتبر صورة الطفل محمد الدرّة وأبيه في الإنتفاضة الثانية للأقصى من أقوى الصور التي شهدتها البشريّة خلال العقود الأخيرة. هزت هذه الصورة الرأي العام العالمي، ودفعته إلى التحرك. ولكن، ماذا حدث بعدها؟ هل توقّف الظلم؟ لا،  بل إزداد قتل الفلسطينيين، واحتلال الأراضي وبناء المستوطنات. حصل ذلك أيضاً خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة، حيث ساهمت الصور التي أظهرت للعالم هول الدمار الذي أحدثته إسرائيل، في خروج المظاهرات في عدد من عواصم العالم للتنديد بالعدوان. اليوم وبعد توقف العدوان، هل أسفرت تلك المظاهرات إلى محاكمة جرائم إسرائيل دولياً، أو حتى إلى حلحلة الوضع اللا إنساني في غزّة ؟ لا. هل حققت إسرائيل أهدافها خلال العدوان؟ بجزء كبير منها، نعم.

في المقابل أنتجت إسرائيل وعلى امتداد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عدداً أقل بكثير من الصور والتي كانت كافية لإقناع الإسرائيلين والعالم أنها تدافع عن حقّها. هل لأن الصور التي أنتجتها الإسرائيليون كانت أقوى من تلك التي أنتجها الفلسطينيون؟ بالطبع لا، ولكن لأنّ إسرائيل أقوى من فلسطين.

من جهة أخرى، خلال العقود الأخيرة قدّمت الولايات المتحدة صوراً مفبركة عن العراق، وأقنعت العالم بأحقيّة هجومها عليه. هل نفع إعتراض أحد على هذه الصور المزيّفة؟ لا!...

حتى إن صور المذبحة اليهوديّة في أوروبا، لم تنفع يهود أوروبا خلال الحرب العالميّة الثانية لإيقاف المذبحة، بل احتاج اللوبي الصهيوني أن يصبح قوياً لكي يتمكن فيما بعد من إستعمال صور المذبحة إلى يومنا هذا لأهداف أخرى. كذلك هو الحال مع معظم صور الحرب الشهيرة خلال التاريخ. تلك الصور نالت شهرتها، وأصبحت رمزاً لتلك الحروب بعد انتهاء تلك الأخيرة. أمّا قرار ابتداء الحروب وانهائها، فلم تستطع يوماً صورة الضحيّة أن تتحكم فيه، بقي ذلك القرار منوطاً بأسباب ومصالح إقتصادية وسياسيّة بعيدة كلّ البعد عن نصرة المظلوم وإحقاق العدالة، وأغلبنا يعلم تلك الحقيقة السوداء.

 

الهدف - الجمهور - المنال:

 

مهمّة الجلاد سهلة. صورته واضحة الهدف، محددة الجمهور وسهلة المنال. يهدف الجلاد عبر صورته  إلى البرهنة عن جبروته، وإثارة الذعر عند خصومه. أمّا الجمهور فليس سوى الخصم : سواء كان هنا الشعب السوري الثائر، أو الجيش الحرّ  أو حتى الكتائب الإسلاميّة الأصوليّة المتقاتلة فيما بينها. في جميع الأحول، وعند رغبة الجلاد  بتوظيف أي صورة من إنتاجه يبقى جمهوره واضح، ويعلم جيداً أين يجده. من جهة أخرى من السهل جداً على الجلاد إلتقاط صورته : إلتقاط صورة لعملية نحر رقبة، لحرق إنسان، لإصابة هدف، لنصب كمين، لهدم مبنى. صورة محددة الإطار، تهدف إلى إظهار فعل أوحد. تلك هي  صورة الجلاد. لذلك كان من السهل أيضاً ومع توفّر معدات متطورة في أيدي الجلادين أن يتفننوا في إلتقاط صورهم. إذ إن ذلك التفنن، وبطبيعة الحال، يصب في هدف تضخيم الفعل ومن ثم تضخيم أثره عند المتلقي. هذا ما شهدناه، وما زلنا، في الصور التي ينتجها نظام الأسد وداعش والنصرة. الجلاد هنا ليس بحاجة لبرهنة أيّ شيئ. فهولا يلتقط صورته إلاّ لكي يبلغ العالم بأنه قويّ. يعلن إنتصاره عبر الصورة، ويثير الرعب.

 

أمّا مهمة الضحية فمهمة صعبة للغاية. فصورتها وبالرغم من أن هدفها واضح إلّا أن جمهورها غير محدد ، وهي صعبة المنال، فالضحية تصوّر خلال الحروب لكي تبرهن للعالم أنها تتعرض للقتل، للقصف، للتعذيب... ، تصوّر لتبرهن أنها الضحيّة، وأنها بحاجة للمساعدة لرفع الظلم عنها. أمّا جمهورها فهو ما يطلق عليه إسم ”الرأي العام العالميّ“، الذي عليه بدوره أن يمارس الضغط على أصحاب القرار للمشاركة في رفع الظلم عن الضحية. وجميعنا يعلم أن ذلك الدور معقّد جداً ويحتاج إلى تفاقم جهود جبّارة لتتلاقى مصلحة الضحيّة مع مصلحة أصحاب القرار من القوى العظمى لكيّ تتدخل تلك الأخيرة لإنقاذ الضحيّة. أمّا من ناحية التقاط تلك الصورة، فكيف تستطيع الضحيّة أن تحصر التعذيب والدمار والموت في صورة وإثنتان ... وألف.  كم قتيل ومذبحة تحتاج الضحيّة لكي تبرهن للرأي العام العالميّ أنّها الضحيّة؟ وما هو اتساع إطار الصورة القادر على استيعاب هول الكارثة؟

 

إذاً في الوقت الذي تصيب فيه صورة الجلاد أهدافها بتفنن وتضخيم، تبقى دائماً صورة الضحية ضعيفة ومكلفة وغير قادرة على تحقيق هدفها كاملاً. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تقوم الضحيّة باستهلاك الصورة التي ينتجها الجلاد، وتقوم بمشاركتها عبر وسائل إعلامها، فتتوسع رقعة متلقي صورة الجلاد، فيما لا يستهلك الجلاد صورة الضحية فتبقى محصورة التلقي.

 

إن كانت صورة الجلاد خلال الحرب أقوى، حتى ولو كانت زائفة، وصورة الضحيّة أضعف مهما كانت محقّة. وإن كانت القراءة السالفة للهدف، والجمهور والمنال ما بين صورة الجلاد والضحيّة تصبّ لصالح الجلاد، فهل يعني ذلك أنّ على الضحيّة أن تتوقف عن إلتقاط الصور؟

 بالتأكيد لا...

ولكن الحاجة ملحّة لمقاربة الصورة من قبل الضحيّة بطريقة مغايرة.

 

الصورة كتوثيق:

 

هنا يجب التمييز، في سياق هذا النقاش، ما بين الصورة خلال الحرب والصورة ما بعد الحرب. إذ مما لا جدال فيه أن صورة الضحيّة وحتى لو لم تستطع أن تحقق أيّاً من أهدافها خلال الحرب إلّا أنها مهمّة جداً في توثيقها لإجرام الجلاد، ولكتابة التاريخ الذي لعلّه يوماً ما سينصر الضحيّة ويجرّم الجلاد. ول ”حسن الحظّ“ أن العدّو المباشر للشعب السوري الثائر والضحيّة، ليس إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركيّة، وإنما نظام الأسد والكتائب الإسلاميّة الأصوليّة، مما يزيل عقبة أمام محاكمتهم يوماً ما في المحاكم الدوليّة، حيث أن الصورة تبقى دليلاً أساسيّاً تستعين به تلك المحاكم، دون أن يتمّ اللجوء سلفاً إلى استعمال حقّ الفيتو كما اعتدنا في الحالة الأمريكيّة والإسرائيليّة. ولتلك المحاكم وفعاليتها أمثلة تاريخيّة كما هو الحال في: يوغوسلافيا ورواندا وأوغندة الشماليّة وجمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة والجمهوريّة الأفريقيّة الوسطى ودارفور. لكن إلى أن تنتهي الحرب، وتصبح للصورة تلك القوّة الوثائقيّة أمام المحاكم، لا بدّ من محاولة مقاربتها بشكل مختلف لعلها تفيد الضحيّة اليوم.

 

 

Hors Champ - مابين المشكلة والحلّ:

 

المشكلة

 

إنّ أيّ مصّور، محترف كان أم هاوٍ، ولحظة التقاطه لصورته، يختار ما لا يريد ضمن صورته ”خارج حقل الصورة“ (Hors Champ) بمقدار ما يختار ما في صورته ”حقل الصورة“ (Champ). تقتضي عمليّة التصوير أن تحدّ المادة المصورة داخل إطار الصورة وعزلها عن كلّ ما هو خارج الإطار. وما لا جدال فيه أن ما هو خارج الإطار، أكبر وأوسع بكثير مما هو في داخله. وبالتالي إنّ الحقيقة خارج الصورة، أكبر وأوسع بكثير مما في داخلها. أيّ إننا في كلّ لحظة نلتقط فيها صورة، نعمد وعن قصد إلى اجتزاء الحقيقة وإلى التقاط جزء صغير منها. تلك هي مشكلة  ال”Hors Champ“. مشكلة لا تعني الجلاد، إذ إن هدفه إظهار فعل أوحد، محدود داخل إطار صورته. لا بل إنه لا يريدنا أن نرى ال”Hors Champ“. أمّا الضحية وعلى العكس، تختار مادتها داخل الصورة لأنها مجبرة على الإختيار، وهي في الوقت ذاته تعلم أن هناك خارج إطار صورتها، أيّ ضمن ال”Hors Champ“، مادة ومعلومات لو استطاعت شملها داخل الصورة لما ترددت، لكنها ورغماً عنها تختار أن تجتزء الحقيقة وتحصرها في تفصيل أوحد داخل الصورة. وتلك هي المعضلة الأساسيّة التي تواجهها الضحيّة، إذ لا إطار باستطاعته توثيق هول الكارثة. هل تلتقط صورة لذلك المنزل المدّمر، وتتجاهل جميع المنازل الأخرى؟ هل تلتقط صورة لتلك الجثة هناك وتتجاهل جميع الجثث الأخرى؟ هكذا يشكل مفهوم ال” Hors Champ“ أزمة للضحية، فيما لا يعني الجلاد كثيراً.

 

الحلّ

 

إن الحل عملياً يكمن في تعويض ذلك النقص الموجود في  ال” Hors Champ“. يعمد الجلاد إلى تسليط الضوء على ما هو داخل صورته، لأنّ الموجود في ال” Hors Champ“ يفضح زيفه. التقاط جزء من الحقيقة وحصرها داخل إطار الصورة، وعزلها عن سياقها، سياسة تناسب الجلاد، وتضر بالضحيّة، والعكس صحيح.

من هنا يقتضي على الضحية أن تقوم بأمرين:

أولاً، تعويض النقص في الصورة وإستبدال ال” Hors Champ“ بمادة أخرى. قد تكون تلك المادة ليست سوى تقديم سرد يكمل الرواية.

في قراءة إدوارد سعيد لفشل الفلسطينيين والعرب في الصراع مع إسرائيل يحيل إلى أن أحد الأسباب الأساسيّة يكمن في فشل الفريق الأول في توحيد روايته في وجه الفريق الثاني، فيما استطاع اللوبي الصهيوني أن يقنع العالم بأن فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود. لذلك يجب أن لا تكتفي الضحيّة في تقديم الصور المجتزئة للعالم، بل على كلّ صورة أن تحمل إلى جانبها رواية تعيد موقعة الصورة في سياق واضح ومكمّل للحقيقة. إذ على الضحية أن لا تنسى أنها تملك الرواية الحقيقية، وهدف الجلاد أن يشوّه تلك الحقيقة لكي يبرر ظلمه. من هنا، على الضحيّة أن توحّد الرواية، وأن تدعّم صورتها ب”Hors Champ“ مختلف في مادته. قد يكون عبر الرواية كما اقترحنا هنا، أو عبر أيّ مادة أخرى توصل الحقيقة كاملة.

 

ثانياً، إن كان هدف الجلاد عزل الصورة عن ال”Hors Champ“، فهدف الضحية يجب أن يكون فضح ال”Hors Champ“. الجلاد لا يريدنا أن نرى ما هو خارج إطار الصورة الذي رسمه لنا، إذ أن في خارج ذلك الإطار تكمن إدانته. لذلك على الضحيّة، وبدلاً من مشاركة صور الجلاد اعتقاداً منها أنهّا تفضحه -وهي بفعلها هذا توسيع رقعة جمهوره-، أن تعمل على فضح ال”Hors Champ“ الذي يريد الجلاد أن يستره. ذلك ال”Hors Champ“ الذي يفضح زيفه، وروايته.

 

هل تلك العلاقة مع ال”Hors Champ“ بإمكانها أن تقدم فعلاً حلاً، وترفع الظلم عن الضحية خلال الحرب؟ للأسف وكما ذكرنا في البداية، لم تستطع يوماً الصورة أن توقف حرباً. وتبقى الصورة قويّة في يد الجلاد القويّ، وضعيفة في يد الضحية الضعيفة. لكن إن إستطاعت صورة الضحيّة أن تدفع باتجاه اكتمال الرواية واكتمال الحقيقة، وإن نجحت الضحية في فضح زيف صورة الجلاد، فإن ذلك قد يساهم في توسيع رقعة التأثير على الرأي العام العالميّ، وربما قد يزيد الضغط على أصحاب القرار، مما قد يعجّل في تأمين الحلّ.

  

المشاركة
عرض المزيد