مقالات بدايات

رفيوجي براند

17/11/2016

لتتحول قضية الإنسان المهجر إلى ما يمكن تسميته اليوم ب (رفيوجي براند)، حيث تحولت أحداث حياته إلى منتج استهلاكي في السوق العالمية

الكاتب: ضحى حسن

 

فتاة ترتدي فستاناً أبيضاً، لا نرى وجهها، الظاهر في الصورة وجه فتاة أخرى تقف على يمين العروس تساعدها على تسوية شعرها، كما تظهر يدان واحدة في الهواء، والأخرى تسند طرف شعر العروس، في المنتصف رجل عادي، يبدو أنه في الأربعين من العمر، يمسك بسحاب الفستان من الخلف، الشخصية الأقرب غير واضحة ترتدي هي أيضاً فستاناً أبيضاً، الجلي منها خصلة شعر بنية اللون، يدها والأبيض. يبدو أنها صورة عادية التقطت قبيل بداية عرس ما.

 

انتشرت هذه الصورة في معظم وسائل الإعلام الغربية والعربية ووسائل التواصل الاجتماعي، تحت عنوان "خياط حلبي ينقذ عروساً كندية من موقف محرج"، حازت هذه الصورة للمصورة ليندسي كولتر على أكثر من ١٣ ألف (لايك)، ٦ آلاف مشاركة ومئات التعليقات في صفحتها الخاصة على "فسيبوك".

 

 

فعل الخياطة الرفيوجية

 

في ٢٠٠٩ حدث أمر مماثل في إحدى أحياء دمشق، الفتاة ترتدي فستان عرسها الأبيض، العائلة تقوم بالتحضير للعرس، الجميع في حالة سعادة عارمة، تقترب والدة العروس من ابنتها لتغلق سحاب الفستان، لكنها لا تنجح في ذلك، سرعان ما انتشر خبر الحدث في أوساط المتواجدين في المنزل، وبهدوء تحمل عمة العروس خيط أبيضاً ناعماً و إبرة صغيرة، وبمهارة تصلح السحاب، تخرج العروس نحو الباب إلى السيارة التي ستقلها إلى مكان الاحتفال بيومها السعيد.

 

فعل الخياطة هو ربط الملابس من قطنيات، قماش، جلود، فرو أو المواد المرنة الأخرى ببعضها البعض باستخدام إبرة وخيط. يعود استخدام الخياطة إلى العصور الحجرية (30000 سنة قبل الميلاد). وقد تطور النسيج قبل تطور الخياطة ومن ثم ارتبط تطور الأخير بتطور الأول، بحسب ويكيبيديا.

 

إذاً من الواضح أن الخياطة ليست بالأمر الجديد، ولأنها فعل يتم ممارسته طبعاً من قبل الإنسان مخترعها الأصلي، لذلك يعتبر وجود الخياطين أمراً ليس بالنادر كذلك. لكن ظهور خياط سوري في كندا هو حدث جلل في يومنا هذا، كما قيامه بفعل الخياطة، حيث يبدو أن هناك فرقاً كبيراً بين الخياط السوري وبين الخياط السوري اللاجئ.

 

بدأت ظاهرة اللاجئ السوري منذ أن أصبح لاجئاً، منذ تلك اللحظة التي خرج فيها من بلده بسبب الحرب إلى بلاد اللجوء، لتتحول قضية الإنسان المهجر إلى ما يمكن تسميته اليوم ب (رفيوجي براند)، حيث تحولت أحداث حياته إلى منتج استهلاكي في السوق العالمية، يتمثل الترويج لها، أي المنتجات الرفيوجية بفعاليات، نشاطات وحملات كثيرة، من خلال المنظمات والمؤسسات والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، تحت عناوين وشعارات متنوعة، "مأكولات اللاجئ السوري"، "مهرجان اللاجىء السوري"، "ريفيوجيز ويلكم"، "اللاجئون الكتاب في المنفى"، "شاورما اللاجئ السوري"، "مؤتمر حوار اللاجئ مع اللاجئ".

 

بينما تصدرت عناوين المقالات، الأخبار والنصوص في الصحف والمواقع الالكترونية " لاجئ سوري يعيد 150 ألف يورو عثر عليها في خزانة.."، "لاجئة سورية تحصل على تسع قبولات جامعية في ألمانيا"، " تتويج لاجئة سورية بلقب "ملكة النبيذ"، " لاجئ ميكانيكي سوري يمارس مهنته في كوريا الجنوبية"، "قصة نجاح لاجئ سوري في السويد"، و "لاجئ سوري يخترع مصيدة للفئران"،"بالفيديو ..لاجئ سوري يمثل ويخرج أول أفلامه الإباحية".

 

ربما غابت عن بعض الأصدقاء الجدد صفات اللاجئ الإنسانية، كما تاريخه، ثقافته واقتصاده، أنه كان ذات يوم شخصاً، يمارس حياته بشكل عادي في مكان آخر، عامل، فلاح، طالب، مهني من جميع الاختصاصات، رب عمل، صاحب عقارات، أو مستأجر يدفع الإيجار..، أي أنه بشر، مر خلال تكوينه بكل مراحل التطور البشري مثلهم تماماً إلى حد ما، لكن من الممكن أن يكون سقط سهواً عنهم أن (اللاجئ) لم يأت من العدم. كتبت حنا أرندت في مقالتها "نحن اللاجئون" : "قبل اندلاع هذه الحرب، كنا أكثر حساسية إزاء تسميتنا باللاجئين، كنا نبذل كل مافي وسعنا كي نثبت للآخرين بأننا مجرد مهاجرين عاديين".

 

الاندماج الرفيوجي
 

وصلت إلى إحدى المقاهي لملاقاة صديقين، رن هاتفي، وضعته جانباً، ألقيت التحية عليهما، رن هاتف صديقي تجاهله أيضاً، بعد دقائق قليلة رن هاتف صديقتنا، أجابت، ظهرت علامات التوتر على وجهها، نظرت إلى هاتفي بسرعة كما فعل صديقي، رسائل من أصدقاء في ميونخ يخبروننا عن قيام أحد الأشخاص بإطلاق النار على المدنيين في الشارع، السؤال الأول الذي سألناه، ثلاثتنا معاً، " ما هي جنسية المعتدي؟. لنرفق السؤال بعبارات قلقة " انشالله ما يطلع سوري"..،" اذا طلع سوري رح يصير وضع اللاجئين السوريين سيء"...، كل منا حمل هاتفه، وباشر في عملية البحث عن تفاصيل الهجوم الإرهابي، إلى أن قرأنا التالي "المسلح إيراني الأصل يبلغ من العمر…"، توقفنا عن القراءة، وضعنا هواتفنا جانباً، تنفسنا عميقاً، كانت هذه الجملة كافية لرفع أصابع الاتهام عنا كلاجئين سوريين، عدنا بعدها إلى منازلنا، لنتابع أحداث الهجوم كأي انسان عادي، كأي إنسان يستنكر قتل المدنيين.

 

كان قلقنا مشروعاً في تلك اللحظة، بعد اعتداءات باريس وتداعياتها على سبيل المثال، ولأن الأحداث اليوم تحمل تفاصيل كثيرة، متناقضة، متماثلة ومتغيرة في الوقت ذاته، قد يجعل من إضافة تفصيل أو إلغائه أمراً كافياً لقلب الانطباعات وردود الفعل حولها. كتلك التي نشرت في بعض وسائل الإعلام، "لاجئ سوري يضرب زوجته ويخنق طفلتيه"، "شاهد بالصور..لاجئ سوري يغتصب طالبة سويسرية"،"اللاجئون السوريون يرتكبون 6 آلاف جريمة منذ بداية الأزمة"....

 

يبدو أن تلك الصور تنتشر بسهولة في أوساط الرأي العام، ينتج عنها سرعة كاملة في التصديق و التضخيم الهائل للأحداث في المخيلة العامة. كان قلقاً من العدوى العقلية والذهنية الجماعية، إذ أنه لا قاعدة واضحة تحكم الانفعالات التحريضية التي تخضع لها الجماهير، فهي تستطيع أن تنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق تحت تأثير المحرض السائد في اللحظة التي تعيشها.

 

وعلى هذا، ربما يمكننا القول أن اللاجئ يشعر بأنه تحت المراقبة بشكل مستمر من قبل المضيف، تعلم اللغة المهمة الأولى والفورية للاجئ المحمل بصدمات نفسية وجسدية وخسارات الحرب في بلاده ، وسامه الأول في اجتياز المرحلة الأولى نحو الاندماج أمام المجتمع المحلي الذي لجأ إليه، لكن الأمر لا يقتصر على المكافأة فقط بل على العقاب أيضاً، إلا أن تطبيقهما في حالة الالتزام أو عدم الانضباط قائم على مبدأ المكافأة الفردية والعقاب الجماعي، كما في المدارس العسكرية، إذ يتم  سحب الوسام من اللاجئ النجيب المنضبط فور مخالفة لاجئ آخر لقواعد الانضباط خاصتهم، في العقاب يصبح كل اللاجئين لاجئاً واحداً.

 

أعلنت السلطات الألمانية أن حوالي 1.1 مليون شخص، سجلوا طلبات لجوء في البلاد خلال العام الماضي، لافتة إلى أن أكثر من 400 ألف شخص قدموا من سورية، وعلى هذا اشتد الجدل حول ضرورة وآليات الاندماج وتطبيقها في أسرع وقت ممكن، دورات الاندماج واللغة.

 

في الحقيقة لست من هواة تعلم اللغات، أو ربما أعاني من عطب ما في مركز تعلم اللغات في رأسي إلى جانب مراكز أخرى فيه على ما أظن ، إلا أني أمارس عملية التأقلم الاجتماعي بمهارة على حد علمي، كما التزم بقوانين وقواعد البلد الحاضن، لذلك باتت عملية اندماجي فوضوية، مقارنة بأبو سمير وأم سمير زميلي السابقين في المدرسة.

 

اليوم الأول في مدرسة اللغة الألمانية، 15 شخصاً في غرفة كبيرة من أعمار وجنسيات وخلفيات مختلفة، تدخل المدرسة الشابة إلى ( الصف)، تلقي التحية باللغة الألمانية، تبتسم، نبتسم لها أيضاً في المقابل، نخرج الدفتر و القلم من حقائبنا، علامات القلق واضحة على الطلبة، أي نحن، تكتب شيئاً ما ، الحيرة واضحة على وجوهنا. أحدق في الكلمات التي كتبتها مدرسة اللغة الألمانية قبل بضع ثوان، أحاول تركيب جملة منها في رأسي، يرفع أبو سمير الرجل الستيني يده، " فيني قرب الكرسي، ما بشوف من بعيد"، يلتفت نحو زوجته، التي تضحك عليه بخجل، يجر كرسيه، يجلس أمام اللوح مباشرة، يفتح الدفتر، يحمل القلم ويكتب بإسهاب، تقاطع المدرسة شرودي، تطلب مني قراءة ما كتبت، أنظر إلى الصفحة البيضاء في دفتري، أسمع همساً بعيداً، صوت إم سمير :" بنتي. سهلة بس حطي أول كلمة آخر الجملة وقريها متل ماهي".

 

 

المشاركة
عرض المزيد