مقالات بدايات

مرض التوحد المجتمعي

24/07/2014

من دوما المحاصرة:  نحن لا نرى العالم الخارجي كما يراه الأناس العاديون الذين يعيشون في العالم المعاصر . لقد أمسى عالمنا صغيرا وضيقا وممزق

الكاتب: سعيد البطل

المصوّر: سعيد البطل

 

من دوما المحاصرة:  “نحن لا نرى العالم الخارجي كما يراه الأناس العاديون الذين يعيشون في العالم المعاصر . لقد أمسى عالمنا صغيرا وضيقا وممزق”.

 

" الكون يبدأ بالمليحة وينتهي بدوما" هكذا قال لي أبو محمود في احدى الليالي، قاصدا المدينتين اللتين تحددان عالمنا المحاصر: الغوطة الشرقية من أقصاها لأقصاها.

كان الوقت ينساب بهدوء  ونحن جالسين في غرفة أبو محمود الباهتة والمنارة بضوء “اللمبة” الصغيرة المشحونة على البطارية.
أبو محمود في الأربعين من عمره، لكن ملامحه توحي بعمرٍ يتجاوز ذلك بكثير. أذكره جيدا في الـعام 2011، عند بداية المظاهرات، كان شاباً بروحه وقوي الشكيمة بما يكفي ليحملني على أكتافه لساعة أو ساعتين كأني ريشة.

سألني كاسرا الصمت: " أتذكر كيف اعتدنا أن نحلم – أنا وأنت – أن نجوب الأرض على الدراجات في عالم بلا حدود ؟ ".  وبدا لي أنني لمحت على وجهه الذي بالكاد أراه،التماع دمعة.
" أتبكي يا أبو محمود ؟ " سألته بتوجس.
أخذ رشفة كبيرة من كوب الشاي البارد المستقر بقربه على الأرض - حيث يتطلب إعادة تسخينه الكثير من الوقت من جمع للحطب وإشعال النار في موقد صغير مصنوع من التنك، الأمر الذي لا يستحق كل ذلك العناء كوننا اعتدناه باردا على أية حال - وضع كأسه بجانبه على الارض وأرخى عنقه المتعبة للخلف على الحائط متأملا السماء من خلال كوة في السقف فتحتها قذيفة من العيار الثقيل سقطت قبل عام تقريبا، وبقيت الفتحة هكذا على حالها حيث لم يكن من المجدي المرور بعناء إصلاحها، كون الامر سيكلف كثيراً - نظرا للارتفاع الجنوني في الأسعار بسبب ندرة المواد- وما من ضامن أن لا تفتح من جديد مع القصف اليومي على المدينة.


" أتعرف! رؤية النجوم في الليل هو الشيء الوحيد الذي يدفعني للتساؤل أحقا لاتزال هناك حياة ما خارج حفرة القاذورات هذه التي نعيش فيها في هذا الوطن التعس؟ ترى أيدرك من يعيش خارج هذه المنطقة، أننا نتشارك السماء ذاتها ؟  وتابع ابو محمود، “كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ كيف تملكنا هذا الشعور القاسي بالوحدة؟" وأضاف قائلا " أذكر أني كنت أشعر بأني أملك قوة وعزيمة ألف رجل وأكثر ... أهو خطأنا أننا حلمنا ؟ أم أنني طالبت بالكثير حين طالبت بصوتي؟"

 

مجتمع يعيش في توحد

التوحد مرض نفسي ينغلق فيه المريض على نفسه في عزلة تامة عن العالم الخارجي ويقطع كل سبل التواصل. لقد كنت فيما سبق غير قادر على فهم هذا المرض. لكنني اليوم أدركه وأفهمه – ليس كفرد بل كعضو في مجتمع مقطوع بالكامل عن العالم الخارجي.

 

تعيش الغوطة الشرقية تحت حصار عسكري مطبق منذ ما يقارب السنة والنصف. لا هاتف ولا كهرباء. لا طعام ولا دواء. لا غاز ولا محروقات تدخل اليها.

الغوطة اليوم هي بمثابة سجن كبير يقيم فيه مليون ونصف إنسان. لا أحد يخرج منه أو يدخل، مع خطر مضاعف للموت إذا حاولت  الاقتراب من خطوط التماس والحصار.

 

في الشتاء الماضي لجأ الناس الى أكل العلف المخصص للأبقار  بعد نفاذ القمح، من ثم نفاذ الشعير والذرة.

بين الحين والأخر يخاطر البعض ويحاول الهروب، لكنها رحلة خطيرة صعبة ونادرا ما تنجح.

كل هذا، قادنا في اللاوعي إلى إنكار وجود العالم الخارجي ودفعه خارج تفكيرنا. لقد حشرنا ذاتنا في صندوق صغير محكم الإغلاق على منطقتنا المحررة دون إن ندرك ذلك تماما. وأنكرنا أن هنالك " آخرين " خارج منطقتنا.

 

لقد تعلمت بالطريقة الصعبة كيف يخرج الجوع أقبح ما في النفس البشرية. أناس تأكل من القمامة، وآخرون يشرعون الأسلحة في عراك على بضع سجائر بالية.

قبل الحصار كانت ربطة الخبز ب 15 ل.س – الآن وصل سعرها الى الألف ليرة.

كل هذه العوامل دفعتنا الى نقطة بدى لنا فيها، أن الحيوانات لديها كرامة أكثر منا.

 

"لولا صوت القصف الجوي والمدفعي، لظننت أني أعيش في القرن السادس عشر يا رجل"، قال لي صديقي رامي مازحا في ذات الجلسة, لكن مزاحه لامس  وترا في نفسي.

"أنا أحسدك" قال لي وأضاف " مازال لديك طرق للتواصل مع العالم الخارجي الذي نسيَنا . مازلت تكتب المقالات أليس كذلك ؟"

" نعم , من وقت لأخر " أجبته.

"ممتاز, إذن انقل عن لساني للآخر: يمكنك إنكار وجودنا وتجاهلنا، لكن لا يوجد شيء بدون مقابل. يوما ما، عندما تصرخ طالبا العون في مآساتك القادمة، لا تتساءل لماذا ليس هنالك من مجيب"، قال رامي مع ابتسامة لئيمة.

 

الحياة في جنيف

الجزيرة التي نعيش فيها أمست حميمية، حيث يتصرف كل حي وكل شارع  ككائن متكامل، يعتمد على سكانه وعلى سكانه فقط.

الدولة غير موجودة ولا أثر لمؤسساتها – من مصلحة المياه إلى مؤسسة الكهرباء وعمال النظافة – وكل الأشياء الأساسية في الحياة اليومية والتي تتعامل معها في العادة كبديهيات مفروغ منها، أمست مفتقدة وبحاجة لبديل.

في المقابل، يتضامن السكان فيما بينهم، فالبعض يتكفل بالعناية ببئر الماء ويتأكد من وصول المياه الى كل بناء. في الوقت الذي يعمل فيه آخرون على المولدات  ويمدون الأسلاك. أما أولئك الذين لديهم خبرة بسيطة في الطب أو في الكهرباء، فلقد أصبحوا الآن خبراء، وبمثابة أطباء ومهندسين. لقد تعلموا إثناء العمل وباصعب الطرق. تعلموا في جامعة الحصار المكثفة، لما يقارب السنتين.

 

أصبحنا واسعي الحيلة .

هل تعلم أنك إذا مزجت المقادير الصحيحة من الفيول والزيت وقليل من المازوت فبإمكانك تشغيل المولدة لضعف الوقت وبأقل من ربع السعر؟

هل تعلم أنك إذا أذبت نوع محدد من البلاستيك وبطرقة محددة جدا تستخرج منه ما سميناه – مازوت بلاستيك و بنزين بلاستيك، ويمكنك تشغيل المولدات والآليات عليها؟

المضحك المبكي في كل هذا، هو غلاء الأسعار، مقابل أسوء أنواع الخدمة. كوميديا سوداء، تزيد فيها تكلفة المعيشة هنا، عن معيشة الدرجة الأولى في مدينة جنيف.

 

"دّهان عادي مثلي يصرف في أسبوع أكثر من مهندس وأحيانا أكثر من طبيب أسنان في نيويورك!" قال رامي .

 

في المحصلة  انهم يتعلمون دون إن يدركوا –أو هكذا بدا لي – كيف يعتمدون على أنفسهم، وفي ذات الوقت هناك ثقة متبادلة بين الجميع، هذا ما يجلب الأمل .ففي مجتمع فصل عن العالم الخارجي ويناضل من أجل ذاته وبقائه، ليس هنالك من مجال للعودة الى الوراء.

 

" نستسلم؟ ماذا بقي لنا لنتنازل عنه على أي حال؟ " يتسأل رامي في إجابة على سؤال طرحته عليه من حول إمكانية المساومة مع النظام. رامي الذي فقد أمه وأخته الصغرى ورأى بيته يتهاوى في ذات الغارة الجوية. رامي، الذي سقط أخوه الأكبر صريعا بطلقة قناص عندما كانت المدينة لا تزال محتلة من القوات الحكومية. رامي الذي غادرت حبيبته مع عائلتها الى تركيا وتركته وحيدا.

"الآن تسألني إن كان ممكن إن أتنازل أو أسلم؟ أعطني شيئا واحدا أسلم لأجله أو بسببه .. اكتشفت الآن إنني الآن حر بالكامل، مع هدف واحد ووحيد: أن أرى من سبب لي كل هذا الألم يعاقب بيدي هاتين .. وأن أرى الأطفال الصغار يكبرون بكرامة في بيوت آمنة "، قال هذا، وارتسمت على وجهه ابتسامة واثقة ولئيمة لا تخلو من الحزن .

 

أعاد رامي رأسه للوراء ونظر الى فتحة السقف التي شكر أبو محمود الله عليها مع كل نسمة باردة تجلبها لنا في هذا الصيف الحار. في الانتظار، مايزال أمامنا الكثير من الساعات والعديد من القصص والأفكار لنتشاركها لقتل الوقت في هذا الليل الطويل الممتد تحت فتحة السقف التي خلفتها القذيفة.

 

المشاركة
عرض المزيد