مقالات بدايات
متى لا يبقى القبرُ المساحةَ الوحيدة المتبقية في الوطن تصوير زياد حمصي

الضحية السورية: خبر ثان دائماً

09/10/2014

لكن وسائل الإعلام،التي خرجت علينا بمطولات أخلاقية عن ضرورة عدم نشر صور الضحايا الغربيين الذين يذبحهم داعش، تعاطت بخفة لا أخلاقية، مع صور الضحايا السوريين 

الكاتب: ليال حداد

 

الضحية السورية: خبر ثان دائماً.

 مقال بقلم ليال حداد 

موقع بدايات

 

الصورة وحدها هي السلاح.  هكذا كان الاتفاق غير المكتوب وغير المعلن بين السوريين الذين نزلوا يهتفون لحريتهم قبل ثلاث سنوات في شوارع سوريا. الاتفاق الضمني، سرعان ما تحوّل إلى عرف: كل تظاهرة مصوّرة، كل هتاف مسجّل. ولاحقاً عندما خرج النظام الأسدي "لإسقاط المؤامرة" بات ايضاً كل اعتداء مصوّر، موثّق بالزمان والمكان. كانت هذه الطريقة الوحيدة لكسر الحصار الإعلامي الذي فرضه النظام على الثورة. وبالفعل نجحت الخطة... نجحت في كشف حقيقة ما يجري هناك: في درعا، وحلب، ودوما، وحمص...

هذه كانت البداية، هذه كانت الأشهر الأولى، وصولا الى مشارف السنة الأولى. ثمّ خرج الجميع عن طوره: لم يعد على مواقع التواصل الاجتماعي صورة واحدة، لا تضم حنجرة مقطوعة، أطفالاً مقتولين، روؤساً مقطوعة، جثث موزعة ومشوّهة.

طافت الدماء، خرجت علينا نحن الجالسين في بيوتنا، على مكاتبنا، خلف شاشاتنا. باتت جزء من يومياتنا، حتى قبل أن نعتاد عليها. ندخل إلى تلك القنوات على يوتيوب، التي نعرف جيداً أنها ستضمن لنا جرعتنا اليومية من العنف والدماء. ونرتاح، نرتاح لخياراتنا السياسية والأخلاقية: نحن مع هؤلاء الضحايا، ضدّ ذاك القاتل.

وهكذا تتابع يومياتنا العادية، نتعايش نحن وما نشاهده، نتناقل الصور بتلقائية مخيفة، نشارك الفيديوهات، نتناقش في تقنيات القتل، ونشتم. يقولون في علم النفس إن هذا ما يسمّى: التطبيع مع العنف. ربما

الأمثلة كثيرة، وهذا التطبيع يبدو نتيجة أكثر من طبيعية لتسلسل الأحداث التاريخية الحديثة أولاً، ثم لسهولة الوصول إلى هذه الصور، وأخيراً لحبّ المشاهد/المتلقي للتلصص على تفاصيل حياة الآخرين حتى في موتهم.

منذ العام 1948، وبعد احتلال فلسطين، كانت الصور تركّز على عنف المحتلّ، وتركّز على هول المأساة من خلال عرض صور الضحايا مقتولين، ومشوهين. راجعوا الصور الأرشيفية لتلك الحقبة، الصور البيضاء والسوداء، مجزرة دير ياسين مثلاً: فلسطينيون عراة في الأرض بعد قتلهم. أب يحمل جثة طفله المدمى ويقبله، أب آخر يصرخ مشيراً إلى أفراد عائلته المقتولين أرضاً والدماء تخرج من أفواههم.

منذ تلك الفترة بات واضحاً أنه كلما كانت الصورة أعنف، كلما كان التعاطف أكبر. وبالفعل نجحت هذه الخطة إلى كسب جزء من التعاطف الدولي، جزء من الرأي العام الغربي. لكن مجدداً كل ذلك لم ينفع: قتل الفلسطينيون بالأسلوب نفسه، بل بأسلوب أعنف عشرات المرات بعدها، وما زالوا يقتلون.

تكاد الأمثلة تكون بالمئات: الحرب الأهلية اللبنانية، مجزرة صبرا وشاتيلا، العدوان المتكرر على غزة... وصولاً إلى ما يحصل في سوريا اليوم.

وهنا تحديداً في سوريا، تحوّل الصراع إلى صراع صورة: طرفان متنازعان (أو أكثر من طرفان بكثير ). طرفان يتفنان بنقل وحشية الخصم/العدو، ووسائل إعلام متعطشة لدماء السوريين. متعطشة لدماء أطفال تسيل ببرودة في الشوارع، ومقاتلين تقطع رؤوسهم، وآخرون يشوّهون.

عرض كل ذلك مباح في الإعلام العربي، لكن قبل ذلك في الإعلام الغربي. وفي الإعلام الغربي تتجمّع كل المعضلة!

 

المعايير المزدوجة

 

منذ إعدام الصحافي الأميركي جايمس فولي، بدأت الدراسات تنهال علينا من كل الصحف الأميركية، والغربية. دراسات حول إدمان العنف، وأخرى حول التطبيع معه، لكن أغلبها تمحور حول تأثير هذه الصور على المتلقين. وهل وقع الخبر يكون أكبر عند نشر الصورة والشريط أو من دونه؟

طيب لنبقى في الولايات المتحدة نفسها. لكن لنعد في الزمان قليلاً إلى الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ذاكرة كل المشاهدين تحفظ صورتين من ذلك اليوم: صورة البرجين المحترقين، وصور الورود والرسائل التي وضعت أمام البرجين.

لا صور الجثث، ولا صور الجرحى! ومع ذلك كان حجم التفاعل الانساني ربما الأكبر منذ عقود طويلة.

منذ ذلك اليوم، وأغلب الدراسات الاجتماعية والنفسية، تستعين بهذا المثال: 11 سبتمبر/أيلول، للتأكيد على أن تصوير العنف، والدماء، والضحايا ليس ضرورياً لتأمين التعاطف الإنساني مع ضحايا هذا العنف.

في الولايات المتحدة أيضاً، تمت استعادة مثال 11 أيلول، في الرد على صحيفتين أصرتا على نشر صورة الصحافي جايمس فولي راكعاً على الأرض امام ذابحه، على غلافيهما. يومها خرجت دعوات لمقاطعة الصحيفتين: صورة القتل مهينة للمشاهد، مهينة للقتيل، وانتصار للقاتل، هكذا كانت الخلاصة.

لكن وسائل الإعلام نفسها، التي خرجت علينا بمطولات أخلاقية عن ضرورة عدم نشر صور الضحايا الغربيين الذين يذبحهم تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، تعاطت بخفة لا أخلاقية، مع صور الضحايا السوريين.

مع احتدام المواجهات في سوريا، وبدء سقوط الضحايا بشكل كبير، تهافتت المواقع الغربية، الأميركية، لكن قبلها وبزخم الأوروبية، لنشر صور وفيديوهات المجازر المرتكبة في سوريا، حتى أن بعضها ذهب إلى نشر صور من دون حتى تمويهها أو تغطيتها. لعل الأمثلة الأشهر هي الصور التي نشرتها صحيفة "الإندبندنت" البريطانية للأطفال الذي قتلوا في مجرزة الحولة السورية عام 2012.

يومها قامت الدنيا ولم تقعد على الصحيفة، واتهمت بـ"اللا أخلاقية". فجاء ردها بسيطاً: "نشر الصور كان ضرورياً لإظهار هول ما حصل". الصحيفة نفسها عادت إلى الخانة ذاتها بعد ذبح جاميس فولي، لتخوض نقاشاً أخلاقياً تبرر فيه نشرها لبعض الصور المتربطة بذبحه، وكانت خلاصة النقاش: "حجب هذه الصور كان سيقلل من قيمة جايمس فولي".

لكن إن كانت الصحيفة البريطانية قد فتحت صفحاتها لنقاش من هذا النوع، فإن غيرها من المؤسسات الإعلامية بدا واضحاً في خيارته: صور الضحايا السوريين، والعراقيين، تنشر. أما صور الضحايا الغربيين فتحجب. وخير دليل على ذلك هو نشر صور شهداء مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، في كل الصحف الغربية تقريباً (ميرور، نيويورك تايمز، واشنطن بوست...) مع روابط لفيديوهات السوريين المتفجعين فوق جثث أطفالهم. الصحف نفسها التي أطلت علينا بمطولات أخلاقية عن ضرورة حجب صور ضحايا "داعش" الغربيين.

لكن هل حقاً يحصل ذلك لتوسيع هامش التعاطف مع الضحايا؟ نكاد نجزم أن الجواب هو لا. إنه فقط الاستسهال في التعاطي الأخلاقي مع صورة هذه الضحية بالتحديد.

 

ما وراء هذه الازدواجية

 

لكن لماذا هذه الازدواجية؟ ولماذا هذا "الاحتقار" لموت السوريين في هذه الحالة ( والعرب، والأفارقة في أماكن وظروف أخرى)؟ ولماذا تبدو هذه الازدواجية طبيعية، وغير مفاجئة؟

قد نذهب بعيداً جداً إن دخلنا في علاقة ما يسمى الرجل الأبيض، مع شعوب "العالم الثالث"، العرب تحديداً. لكنها جزء أساسي من الإشكالية. الإشكالية التي تتجلى واضحة عند كل اعتداء إسرائيلي على الفلسطينيين: تفجّع لخطف جندي إسرائيلي، وتغطية إخبارية منحازة، و"موضوعية" لمجزرة تقتل مئتي غزاوي مثلاً ! العلاقة طبعاً أكثر تعقيداً من ذلك، علاقة تفاصيلها سياسية واقتصادية وأخلاقية!

لكن هنا تحديداً لا لوم على الإعلام الغربي وحده. ففي العالم العربي مباراة مستمرة منذ عقود حول من ينشر الصورة الأكثر دموية، الصورة التي تجذب قراء ومشاهدين، والصورة التي تجيّش وتعبئ طائفياً، وعرقياً وقبائلياً. حتى أن عائلات الضحايا أو الأطراف التي يطلقون عليها (حزب سياسي، طرف عسكري أو ديني) تسارع إلى نشر الصور العنيفة لضحاياها. تسارع إلى توزيع صور جثثهم، على وسائل الإعلام.

أما المجتمع المدني، ذاك الذي يفترض أنه جزء من منظومة أخلاقية تسعى للحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه، فهي تقريباً غير موجودة، على اعتبار أن لا كرامة للاموات طالما أنهم... أموات، لذلك تكاد المبادرات المدنية المحتجة على نشر هذه الصور تعدّ على اصابع اليد الواحدة في سوريا وخارجها.

 

هل قلت أخلاق؟

 

طيّب، في حال اتّفقنا أنّ كل ما سبق هو تعاط لا أخلاقي، مع الضحايا السوريين، مع حرمة أجسادهم الباردة، ومع عائلاتهم وأقاربهم، وأنّ عرض هذه الصور، بوحشيتها، وبفجاجاتها هو، وقبل أن يخدش نظر المتلقي، إهانة واضحة للضحية وجثتها.

مع ذلك كيف يمكننا إظهار هول المجزرة إن لم يكن بهذه الطريقة؟ وما هي حدود التعاطي الأخلاقي مع الضحية (السورية هنا)؟

الجواب قد يبدو بسيطاً جداً. إنه جواب نستقيه من التجربة السورية تحديداً: التعاطف مع الضحية يبنى على أساس سياسي أولاً وأخيراً. صور آلاف القتلى من الأطفال مثلاً، لم تستعد سوى "قلق" المجتمع الدولي، و"حزن" الأمين العام للأمم المتحدة.

بينما في العام 1992، في الصومال تحديداً كشفت الولايات المتحدة أن صور الأطفال الذين ماتوا من المجاعة والتي ملأت الصحف، والشاشات الغربية، هي التي أدّت إلى التدخّل الأميركي في تلك البلاد. الأمور حتماً ليست بهذه البساطة لكن الصورة استعملت كحجة أساسية للتدخل العسكري.

وفي العام 2014، صور مجازر داعش، والفيديوهات الآتية من سوريا والعراق، وبينها طبعاً ذبح المواطنين الغربيين، (وأغلبها فيديوهات وصور من انتاج المطبخ الإعلامي للتنظيم) هي التي دفعت إلى التدخل الدولي الأخير.

حسناً، وماذا عن صور الضحايا الآخرين، هؤلاء الذي ماتوا في سوريا على يد أطراف أخرى؟ وهل هي غير مؤثرة؟!

أما الحقيقة الأخرى فهي أن تأثير الصورة يتضاءل مع الوقت. فكلما طالت الحروب، كلما خفّ تأثير الصور التي توثّق الموت اليومي هناك (أنظروا العراق.... أنظروا فلسطين).

هكذا، بدأ السوريون بالبحث عن طرق أخرى لتصوير واقعهم: السينما السورية المستقلة مثلاً، الأغاني التي بدأت على شكل هتافات في التظاهرات، تحوّلت بعدها إلى إنتاج من وحي اليوميات السورية. الأشرطة المصوّرة والتي تتضّمن شهادات لسوريين عاشوا المأساة هناك.

سوريين يروون من دون دماء، من دون وجوه مهشمة، هول ما رأوه، وما عاشوه. وتحصل هذه الأشرطة على مئات آلاف المشاهدات. وتنتشر بشكل كبير، ويبدو تأثيرهاعلى المجتمع الغربي بشكل خاص أكبر.

كذلك الأمر بالنسبة ليوميات الحرب. الصور المؤثرة لم تعد صور الدماء، بل تلك التي تقدّم مضموناً جمالياً مختلفاً عن صور الموت اليومي. وتبقى صورة المقاتل المعارض الذي يقبّل أرض حمص قبل الخروج منها هو أكبر دليل على تأثير جمالية الصورة على المتلقي. في هذه الصورة تحديداً: لا دماء، لا جثث، لا أطفال، بل شاب حمصي، يحمل سلاحه على ظهره راكعاً يقبّل تراب المدينة التي حارب لأجلها، وسط دمار عظيم. جابت الصورة مواقع التواصل، نشرتها المواقع الغربية، بشكل أكبر من نشر صور "عودة الحياة إلى طبيعتها" التي كانت يعرضها الإعلام الرسمي.

 

الخبر الثاني دائماً

 

نقاش الصورة عاد إلى الواجهة لسبب بسيط ومزعج: ذبح مواطنين غربيين على يد "داعش".

أما السوريين، فإن ذبحوا، أو قتلوا بالبراميل المتفجرة أو بالسلاح الكميائي، فهم سيأتي بالتأكيد كخبر ثانٍ...

أما احترام حرمة موتهم، فهو غير مطروح للبحث أساساً، خصوصاً ان الأطراف المتقاتلة تبرع في نشر هذه الصور وتوزيعها.

المعادلة بسيطة: هي حرب أهلية. هكذا يقول الإعلام الغربي، وبهذا التعميم يقدّم القصة، ووفق هذا التعميم يعرض صور "ضحايا الحرب الأهلية".

أما تفاصيل هذه الحرب: الثورة، النظام، المجازر، أبرياء... فهي مجرد أخبار هامشية، تفاصيل صغيرة يكاد الإعلام نفسه لا يراها.

الإعلام الذي احتاج إلى ذبح مواطنين غربيين ليكتشف أن شيئاً ما يحصل في تلك البلاد المسماة سوريا. إحتاج إلى تدخّل أجنبي ليعرف أن ثمة ضحايا كانت تسقط هنا.

هل قلنا أعلاه إن نشر صور القتلى والتعاطف معهم سياسي؟ إنها الحقيقة الأكيدة الوحيدة: أنظروا إلى البيت الأبيض اليوم، ينشر صورة القتلى من "داعش" ويحث الإعلام على نشرها...

لم يعد السوريون بحاجة إلى تعاطف، فاتركوهم يموتون بسلام..

 

 

 

المشاركة
عرض المزيد