في الصحافة

مقال عن فيلم "حصار" في صحيفة القدس العربي بقلم راشد عيسى

06/04/2015

فيلم سينمائي من قلب مخيم اليرموك استشهد اثنان من مخرجيه وترقب لمصير الباقين: «حصار»: حكايات المخيم الفلسطيني في دمشق كما يرويها أبناؤه.

 

لم يكفّ مخيم اليرموك منذ بدء الحصار عن كتابة يومياته، كلمات وأشرطة تسجيلية وبيانو يتجول في أزقة المخيم وساحاته. كذلك يخرج اليوم من قلب الحصار تسجيليٌ يحمل اسم «حصار، أربع حكايات من اليرموك، وفيه يكتب المخيم سينمائياً جزءاً من يومياته، بعد أن تعلم بعض شبابه خلال ورشة عمل بالسكايب كيف يصنعون أفلاماً عن حياتهم، لنجد أنفسنا أمام بشر تعلّموا أولاً كيف يخترعون أنفسهم في قلب حصار متعدد الوجوه والطبقات.


«حصار» (9:14 دقيقة – 2015) هو عبارة عن أربعة أفلام يتراوح زمن واحدها أقل من دقيقتين، أخرجها عبدالله الخطيب، ضياء يحيى، مؤيد زغموت، براء نمراوي، جمال خليفة، محمد سكري، وسيم منور، عبد الرحمن سليم، عمر عبدالله، نوار اليوسف. ويبدو أن الفيلم نفسه لم ينج من الحصار والقصف والتنكيل، فحسب الجهة المنتجة («بدايات» بالاشتراك مع مؤسسة «وتد») تعرّض عبد الله، أحد مخرجي هذا الفيلم إلى محاولة اختطاف، كما اغتيل فراس الناجي منسق مركز «وتد»، والشريك في صناعة هذا الفيلم. واستشهد جمال خليفة، أحد مخرجي الفيلم، خلال هجوم «داعش» الأخير على مخيم اليرموك.
يُعنْوَنُ أول هذه الأفلام بـ»دانا»، وهذا اسم الطفلة بطلة العمل. تصور الكاميرا دانا وهي تجر عربة تحمل بعض غالونات الماء إلى بيتها في المخيم. صورة هي نقيض لكل الصور الرومانسية لملء الماء، حيث النبع والجرار وقصص الحب في طريق النبع أو النهر. لا نرى النبع هنا ولا البيت، نرى فقط طفلة وحيدة في الطريق الخالي من الناس، هي وصعوبات الطريق، كيف تجر البنت عربة سطول الماء. الكاميرا تصور محاولاتها الدؤوبة للسيطرة على العربة وسط الحفر. أحياناً تبدو الكاميرا نفسها وكأنها تحاول إخراج العربة من الحفرة. فوق ذلك هناك شعور البرد الذي يوحي به معطف الطفلة. تصل دانا إلى حيث تريد، تفرغ دلاء الماء البلاستيكية، يصبح صوت الماء ساطعاً ليبدو أقرب إلى خاتمة سعيدة لحكاية الفيلم، قبل أن تقفل البنت في رحلة جديدة. حركة العربة تذكر بوعورة طريق سيزيف، دانا هي سيزيف اليرموك، وعربة الماء صخرتها
لحظة للكاميرا لا تنسى، تلخص فحوى الفيلم، ففي لقطة خاطفة تبدو العربة وكأنها أرجوحة للبنت، ذلك يلخص الوضع المأساوي، فالبنت تزج في هذا الوضع السيزيفي، في وقت يستحق جيل دانا الأراجيح، يستحقون طفولتهم.


حكاية «أمبير» تصور لحظة عودة التيار الكهربائي، قبلها لا نرى سوى مجموعة أضواء بسيطة في العتمة، ودردشة لشبان حول أركيلة، لحظة عودة التيار تستحق أن تكون مرآة لتسجيل انفعالات الناس في سوريا. لا نرى وجوه الشبان هنا، بل انفعالهم، صراخهم، حركتهم الدؤوبة في المكان بحثاً عن أبسط حاجاتهم. هنا لا بد أن يكون للحدث الراهن، أي الهجوم الذي تشنه «داعش» على مخيم اليرموك، بل وأنباء سيطرته على المخيم، أثر كبير في التلقي، لا شك أننا سنترقب غداً ما سيكون مصير أصوات هؤلاء الشبان وصرخاتهم
في حكاية «ولاد الأرض السمرا» سيبدأ المشهد بصورة حقل أخضر، تعرف الكاميرا أن اللون غريب على المكان المدمر، فتقف طويلاً فوق الحقل، كأنما لتخدعنا، أو لتقول لنا «نعم، لقد صنع هذا الحقل في حطام مخيم اليرموك». بعد هنيهات سنرى أنه حقل من الفجل زرع في مساحة فارغة في المخيم، كما سنرى توزع الناس في الحقل يجنون شيئاً من «المحصول»، بل أن طفلة انكبت لتأكل أوراقه مباشرة في الحقل. الإشارة إلى جوع المخيم واضحة، لكن الأوضح منها الإشارة إلى ناس المخيم وشبابه الذين يساعدون الأهالي. حضور الناس هو كل شيء في هذه الأفلام، أصواتهم خصوصاً، لكن هذا الفيلم بالذات يبدو وكأنه مهدى إلى شباب المخيم، الذين يزرعون، ويجنون من أجل الأهالي. هكذا يختم الفيلم بصوت شاب يغني «ولاد الأرض السمرا، ضحكتهم هدّارة، تطليعتهم حرة، وجبين منارة. ما جاعوا وما باعوا…».

يرموك ـ كراجات

«أتوق إلى زحمة الناس والمشاغل»، هذه عبارة إيفان في «عنبر رقم 6»، قصة أنطون تشيخوف، ولعلها تصلح تفسيراً لرغبة شاب في مخيم اليرموك الآن في أن يركب سرفيس (حافلة صغيرة وشعبية للنقل العام) على خط اليرموك – كراجات، المتوقف الآن بعد أن كان الأكثر ازدحاماً على الدوام قبل الثورة. ازدحام لا يشتهيه إلا سجين أو عاطل عن العمل، أو محاصر في مخيم
فكرة فيلم «يرموك- كراجات» تكمن هنا، في هذه الرغبة الحارقة للناس والزحام. لا ندري إن كانت المصادفة وحدها قد حمّلت الفيلم بهذا الكم من الرموز، حيث يصل الخط الآنف الذكر بين الكراجات، التي تستقبل المسافرين من كافة المدن السورية، والمخيم، وقد كان على الدوام ملاذاً للكثيرين من أبناء المدن والأرياف البعيدة، بالضبط كما شكل ملاذاً آمناً لنازحي المناطق الساخنة في دمشق، قبل حصار قوات النظام للمخيم وقصفه. لكن لندع ذلك جانباً، فليس هذا هو الأهم، الفكرة الأساس في أن شاباً في المخيم يمارس حنينه وتوقه ذاك، فيذهب إلى سرفيس، أو بقايا سرفيس، ليس سوى كتلة من الحديد الصدئ ليحكي حلمه. يتذكر الشاب في تعليق مرفق رحلته في ذاك السرفيس وكيف كان يحشر فيه، مع عشرين راكباً، هو الذي لا يتسع إلى نصف هذا العدد. يعلق الشاب «حصار صغير مع عشرين راكب في ميكرو بيوسع عشرة، بس بياخدك لوين ما بدك أجمل بكتير من حصار بأرض كبيرة بس مسيجة بالموت والسواتر»، ثم يمضي الشاب، وهو هنا في الصورة جالس في السرفيس الصدئ بيده كتاب، كما لو أنه يقلد رحلة في الذاكرة، يصف السرفيس «هو مكان تختلط فيه الروائح، كيس الخضرا، مع ريحة شيخ، وصبية حلوة. وبيختلط صوت إذاعة السائق مع صوت شب عم يحكي مع صبية ويقول لها ربع ساعة وبكون عندك على باب الجامعة». وهنا، يأتي صوت المغني، كما لو أنه فعلاً جاء من مذياع السائق، وتحديداً بعد كلمة «يقول لها»: «الشام لولا المظالم كانت فوق المدن جنة». (أغنية للمغني الشعبي أبو رياح، ويقال إنه اعتقل بسببها).
وفي الصورة أمامنا كان الشاب جالساً إلى الشباك، يتأمل الخارج، كما لو أنه يتأمل الطريق الذي كان يعبره سرفيس الذاكرة. وفي داخل السرفيس توزعت عناصر الحياة، وكأن الشاب يعيد تمثيل المشهد، كيس الخضرة احتل مكاناً، والكوفية الفلسطينية وحقيبة ظهر احتلتا كرسياً آخر، فيما أخذت دمية لـ»دبدوب» بلون زهري مكاناً أيضاً
هكذا يتابع الشاب تعليقه «خط اليرموك- كراجات هو الخط الواصل بين قلب المخيم وقلب الشام. هالخط اليوم واقف، بس القلب لساته عم ينبض». ومع هذه الكلمات سنرى إلى أحد مسننات محرك السرفيس الصدئة قد دارت لتتوقف مع نهاية فيلم لعله الأكمل بين الحكايات الأربع.
الفيلم الأخير، «يرموك- كراجات» حين يصل بين قلب اليرموك وقلب دمشق يتناغم مع فكرة انتماء المكان الفلسطيني لمحيطه السوري الأوسع، ينتمي إلى نكباته كما إلى أحلامه، لذلك سيرد في «تيترات» الفيلم تعليق يقول «هذا جزء صغير من حكاية جنوب دمشق المحاصر»، فاليرموك قبل أن يكون مكاناً خاصاً بالفلسطينيين هو جنوب دمشق، إذن فالمخيم «جزء لا جزيرة»، وربما أراد صناع الفيلم رسالة سياسية من وراء ذلك


فيلم «حصار» أنجز خلال أربعة شهور، وقد أُهدي «إلى روح فراس الناجي وجمال خليفة.. استشهدا وهما يوثقان مجزرة «داعش» وحلفائه المجهولين المعلومين في مخيم اليرموك». ولا ندري ما سيكون مصير الشهداء الأحياء، صنّاع الفيلم، عند نشر هذه السطور.

رابط المقال في القدس العربي:
http://www.alquds.uk/?p=373617

 

المشاركة
عرض المزيد