مقالات بدايات
اقرأ النصّ بالانجليزية

هنا وهناك، بين الأمس واليوم

23/03/2018

ستخوض الشعوب عاجلاً أم آجلاً ثوراتها بعد كمٍّ محدّدٍّ من القمع والاستبداد، وسيكون جوهرها متشابهاً وإن كان في الشكل اختلاف.

الكاتب: سمير سكيني

 

" في العام ١٩٧٠، كان اسم هذا الفيلم "النصر"
في العام ١٩٧٤، صار اسم هذا الفيلم "هنا وهناك" – وهناك، و. "

بهذه العبارة يفتتح جان-لوك غودار، بصوته، فيلمه الـشبه وثائقيّ "هنا وهناك"، مع التشديد على حرف العطف ما بين الظرفين: الـواو، إن كان بطريقة اللّفظ أو بتكرار هذا الحرف أو ببساطة عرض صورته على الشاشة مع بُعدها الثالث وتثبيتها لبضع ثوانٍ. طبعاً ليس هذا التشديد واحداً من حركات غودار العبثية، بل هو جوهر الفيلم كلّه في إظهار التناقض بين عالمين، أو قل إزدواجية العالم الواحد: ما بين هنا، وهناك.

أنجز غودار هذا الفيلم في العام 1974 بعد أن سافر في العام ١٩٧٠ إلى الأردن ومكث فيها لشهور مع مخرجين فرنسيّين. يتناول غودار صورة الثورة الفلسطينيّة في المنظور الغربي.

 

 

خلال المشاهدة الأولى يبدو الفيلم محصوراً بالثورة الفلسطينية، ويبدو التناقض الواقع بين معاناة الشعب الفلسطينيّ وترف الشعوب الأوروبيّة التي ليست على درايةٍ بما يجري في العالم العربي، بل تكتفي بأن تتعرف عليه عند جلوسها خلف شاشة التلفاز.

يعتمد الفيلم في جزءٍ منه على إظهار كيفية التلاعب بالمَشاهد وتحريف الواقع وطرق التصوير والمونتاج قبل عرض المادة النهائية على التلفاز، لمجتمعاتٍ بعيدة كل البعد عن قلب الحدث، جغرافياً وموضوعياً. هذا التناقض لا شكّ واضحٌ في الفيلم وهذا ما يتلقّاه الجمهور في وعيه، وما يزيده وضوحاً التنقّل المستمرّ بين مشاهد لطفلةٍ فرنسية في غرفة الجلوس خلف التلفاز وطفلة فلسطينية من العمر نفسه تخضع لدورات عسكرية في المخيّم.

وهنا بالتحديد تكمن براعة غودار، في إيصال رسالةٍ واضحة وعميقة، يستوعبها المُشاهد دون أن تلفت الانتباه مباشرةً،  وأعني بها مخاطَبَة المخرج للا وعيّ عند المشاهد– وذلك عبر مَشاهد تعبر الشاشة مرور الكرام، ولا تُعار اهتماماً كافياً، وهي بالتحديد المشاهد التي سوف تبقى عالقةً في الذاكرة بعد نسيان عناوين الفيلم العريضة.

أوليس هذا واقعنا اليوم خارج الفيلم؟

 قد لا أذكر عن أي حربٍ أتكلّم الآن، لكنّي أراه واضحاً أمامي ذاك الطفل الذي لمحته بضع ثوانٍ فقط في فيديو مصوّر على الفايسبوك، يحمل دميَةً ممزّقةً بيده اليمنى ويد أمّه المبتورة بيده اليسرى وسط الركام وهدير الطائرات، وهو منتصب في منتصف الكادر منتظراً  أوامر المخرج الأعلى.

الحياة إذن أشبه بفيلمٍ سينمائيّ حيث يكون المخرج هو هو غودار، لكن حكماً ليس هو من صنع الأحداث أو السيناريو اللعين الذي يوثّقه.

في العودة لفيلم غودار، فإن تشريح الفيلم لقطةً بعد لقطة كفيل بإيضاح معاني بعض المشاهد المبهمة، من بعد تحليلها وترتيبها حسب السياق الذي به عُرضت، تلمساً  ل "القطبة المخفية" في نهاية المطاف. وذلك عبر ربط هذه الأجزاء أولاً بسياقها التاريخي والسياسي وبالظروف الموضوعية التي نتجت منها، وثانياً عبر ربطها كلّها ببعضها البعض وخلق سلسلة مشاهد في ترتيب كرونولوجيّ منطقيّ هو أشبه بحلقة توثيقية لمختلف الأحداث الثورية بدءاً من الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ (وهنا يلمّح غودار لهذه الثورة بطريقة جدّ سلسة، وذلك عبر كتابة الرقم ١٧٨٩  على آلةٍ حاسبة وجمعه مع عدة تواريخ ثورية أخرى) وصولاً إلى الثورة الفلسطينية عام ١٩٧٠ أي، تاريخ تصوير الفيلم، إضافةً إلى ما يمكن أن نضيفه في سياق هذا المقال، أي حقبة ما بعد التصوير وصولا لربط أحداث الفيلم بالواقع الآني.

 

 

يُقسّم تسلسل وعرض الأحداث على فصولٍ خمسة، يبدأ كلّ منها مع مشهدٍ ثابت لعنوان الفصل، يليه مشاهد حية من مخيّم البقعة في الأردن توثّق تفاصيل الثورة الفلسطينية ويوميّات المخيّم، وتأتي بالترتيب التالي:

إرادة الشعب؛ لا شيء كفيل بإشعال الثورة الشعبية في ظلّ غياب إرادة الشعب نفسه وقناعته بصوابيّة قضيّته، حتى لو كان هذا الشيء احتلالاً أو حرباً أو قمعاً، بالقول أو بالفعل. لقد كانت هذه الإرادة في أوجّ حضورها خلال التصوير (١٩٧٠)، وأيضا بات هذا الشعار  عنوانا لمرحلة الماضي القريب (من العام ٢٠١٠ وحتى اليوم): "الشعب يريد"؛ إذن في هذه الحالة، الثورة ممكنة – لا بل هي واجب.

الكفاح المسلح؛ سبيل التحرر الوطني والتخلّص من نير الأنظمة الحاكمة ومواجهة أدوات قمعها.
العمل السياسي؛ لا تتوقف الثورة عند حدود السلاح. تسييس الصراع عامل ضروريّ في ضمان نجاح الثورة الشعبية، والأكثر من ضروري هو إدخال هذا العامل في الصراع الاقتصاديّ، الإيديولوجيّ والإجتماعيّ.
الحرب الطويلة الأمد؛ أو كما يلفظها غودار "الطويــــــــلة الأمد". ليست الثورة حفلة عشاء ولا تنتهي مع مرور قمرٍ واحدٍ، بل هي سيرورة أحداث طويلة الأمد وعملية تراكمية تنقل المجتمع خطوةً تلو الأخرى إلى نظامٍ جديد أكثر تقدّميةً، أي إلى أن تبلغ الثورة الشعبية منتهاها – المرحلة الأخيرة.
النصر؛ المرحلة الأخيرة. بدءاً من إرادة الشعب بالتحديد، فالكفاح المسلّح والعمل السياسي، ثم تأتي الحرب الطويلة الأمد المحكومة بوعي الشعب والجدوى المستمرّة وصولاً الى النصر.

إن هذا التقسيم أشبه بنظرية ثورية قابلة لمطابقة أي ممارسة ثورية شعبية. وإن كانت قد عُرضت في الفيلم في سياقها الفلسطيني، ولكن أممية هذه النظرية تظهر بالتحديد في المشاهد التي تخاطب اللا وعي. إذّاك، يتخطى الفيلم الكادر المكانيّ الفلسطينيّ وتمرّ سريعاً على الشاشة صور وأرقام من مختلف ثورات العالم بشكلٍ متتالِ يظهر فيه وجه الشبه بينها حتى تختلط المشاهد في نهاية المطاف، فلا تبقى واضحة المرحلة التي تنتمي إليها هذه الصور، لكنها حكماً تعبّر عن ثورةٍ شعبيةٍ ما.

ستخوض الشعوب عاجلاً أم آجلاً ثوراتها بعد كمٍّ محدّدٍّ من القمع والاستبداد، وسيكون جوهرها متشابهاً وإن كان في الشكل إختلاف. بدءاً من ثورة  ١٧٨٩، ثم الجبهة الوطنية ١٩٣٢، ثم أيار ١٩٦٨ وإضراب المصانع ١٩٧٢ (كل ما سبق في فرنسا)، أضف إلى ذلك مشاهد من فيتنام ١٩٥٥-١٩٧٥ وبراغ ١٩٦٨ والنضال الشعبي الإيطالي ضدّ الفاشية... ولكل محطة من هذه الأحداث مشاهد مصوّرة قصيرة بالأسود والأبيض يعرضها المخرج بالتتالي.

هنا شبّان يرطمون دبابة في براغ بجذع شجرة، ثم صورة لسكّان فلسطين الأصليين، فصورة لسيّدتين تعملان في المصانع الفرنسية، ووصولاً لأشهر صور المصوّر إيدي آدامز – تلك التي تظهر رجلاً مصوّباً مسدّساً على رأس آخر قبل ثوانٍ من إطلاق النار في فيتنام. ولا ينسى المخرج الشقّ السمعيّ فيرفق كل مشهد مع موسيقى أو أغنيةٍ تلائمه في الخلفية.  

لا يقف غودار إذن عند محطّة واحدة بل يربطها كلّها في سيرورةٍ واحدة. ولو قُدّر له أن يزور المنطقة العربية اليوم لأضاف على فيلمه كمّاً هائلاً من المحطّات التي وقعت بين العام ١٩٧٠ واليوم، بل حتّى إلى اللحظة التي يُكتب فيها هذا المقال. مئات المشاهد التي توثّق ثوراتٍ شعبية ضد أنظمة القمع والاحتلال.

أكثر من ذلك، لا ينحصر الفيلم بالثورات الشعبية وتصوير معاناة الشعوب فحسب، بل يحرص على إظهار وجه الجلّاد و نسج صلة بين كلّ هؤلاء "الزعماء" الديكتاتوريين المتطرّفين وعرضهم ضمن سلسلة واحدة بدءاً من غولدا مائير وموشي ديّان ممثلّين الإحتلال الإسرائيلي، ثم التلميح إلى تشهابههما مع هتلر ومسؤوليّته عن المحرقة اليهودية (والمشابهة إلى حدّ كبير بما يفعله الصهاينة بالشعب الفلسطيني، فأورد غودار صوراً من معتقلات أوشفتز وتربلينكا)، وختاماً مع ريشارد نيكسون وهنري كيسينجر لتورّطهما بالحرب على فيتنام. وهنا ضرورة تكرار الملاحظة السابقة: لو قدّر لغودار أن ينجز فيلمه اليوم، تُرى كم كانت ستطول هذه السلسلة؟ كم وجهاً كان سيضيف؟ لسوف يلجأ إلى جزءٍ ثانٍ!

 

    

 

ان انتماء غودار إلى "الموجة الجديدة" في عالم السينما ورونقها، لم يمنعاه من استحضار صور حادّة وحقيقية للموت، فهي تظهر فجأة على الشاشة دون سابق إنذار. جثث هامدة، وجوه مشوّهة، أجساد محروقة. معظمها من أيلول الأسود، بعضها من فيتنام والبعض الآخر من مخلّفات النازية. ويورد غودار ملاحظته: ان كل ممثلي هذا الفيلم أمسوا في عداد الموتى الآن. لا بد أن هذه المشاهد كانت صادمة في تلك الفترة.

لكن مهلاً، تُعرَض هكذا مشاهد اليوم مراراً وتكرارً دون أي تفاجؤ او استغراب، بل يظهر أسوء منها على مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها من غزّة، من اليمن او من سوريا. فهي متشابهة إلى حدِّ كبير. وهكذا، أمست صور الموتى خبزاً يومياً. حتّى أن بعض الأشخاص باتوا ينقلون المجازر عبر خاصيّة البث المباشر!

حسناً إذن، نداء إلى غودار – نداء إلى غودار، قد تجد هنا المادة المطلوبة لجزئك الجديد.

 المادة المطلوبة؟ نعم بالظبط. هكذا صار الموت، مادة لملئ الشاشات والمقدّمات الإخبارية، جثث نصوّرها لنتناقلها على الإنترنت ريثما يأتي دورنا ونمسي فصلاً جديداً في هذا الفيلم الطويل الذي يمجّد الجلّاد ويقمع الضحية أكثر فأكثر – على عكس أفلام غودار.

 

 

هذا يفضي إلى النقطة الأخيرة في قرائتنا لفيلم غودار، بخصوص سيرة القتل الجماعيّ، وهي لوحة "غرنيكا" للفنّان بيكاسو، التي تظهر خجولةً في خلفية مشهدٍ واحدٍ فقط من الفيلم. اللوحة هذه وفي سياقها التاريخي، تمثّل مدينة غرنيكا الإسبانية بعد أن تعرّضت لغاراتٍ جوية نازيّة عنيفة وهي خالية من المقاتلين أو الأهداف العسكرية ممّا أدى إلى مصرع مدنيين أبرياء، أمّا من نجا من القصف فقد مات جرّاء إشتعال المنازل الخشبية. أما في سياق الفيلم، فهي ترمز إلى القصف الاسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، ما أدى إلى مصرع الكثير من الفلسطنيين في بيوتهم. أما اليوم، فهي أبداً حاضرة في كل ما يجري من حولنا وسط هذا القصف العشوائي واستهداف المدن دون تفريقٍ بين مدنيّين وعساكر، من غزة فاليمن فسوريا واللائحة تطول.

 

" في العام ١٩٧٠، كان اسم هذا الفيلم "النصر"
في العام ١٩٧٤، صار اسم هذا الفيلم "هنا وهناك"
هنا، عائلة فرنسية تشاهد التلفاز.
هناك، صور من الثورة الشعبية الفلسطينية. "

 

هناك، مجتمعات دولية ومنظّمات سلام تشاهدنا على التلفاز.
هنا، طائرة حربية تغير على حيّ سكنيّ، يسقط المبنى على من فيه، يخرج طفلاً من بين الركام يحمل دميَةً ممزّقةً بيده اليمنى و بيده اليسرى يد أمِّه – مبتورةً.

هنا، هناك. هنا وهناك، بين الأمس واليوم.

المشاركة
عرض المزيد