مقالات بدايات

كرة القدم والحرب الأهلية.. هل فاز لبنان حقّاً بكأس العالم؟

06/07/2018

منذ زمنٍ طويل شكّلت كرة القدم، لكونها اللعبة الأكثر شعبية في العالم، منفذاً للأفكار السياسية وللصراعات بين الأمم وحتّى للاستغلال من قبل السياسيين، بالقدر نفسه الذي ساهمت فيه بتقريب الناس من بعضهم البعض والحد من الصراعات السياسية.

الكاتب: رضا حريري

بعد سنةٍ على اتّفاق أمراء الحرب في مدينة الطائف السعودية، انتهت الحرب الأهلية اللبنانية رسميّاً في العام 1990، مع سيطرة قوّات النظام السوري على القصر الرئاسي في بعبدا وهرب الجنرال ميشال عون إلى منفاه الفرنسي.

 

هذا ما قرأناه في الصحف والكتب وما شاهدناه في البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية. لكنّ الواقع يقول إنّه بعد مرور أكثر من ثمانيةٍ وعشرين عاماً على انتهائها ما زالت الحرب الأهلية مركز الاهتمام الرئيسي في لبنان.

 

كما هو معروف، لم ينعم لبنان باستقرار حقيقي بعد العام 1990، بل كان ينتقل من أزمةٍ إلى أزمة ومن صراعٍ إلى آخر. من الاحتلال الاسرائيلي إلى اغتيال رفيق الحريري، وصولاً إلى اتفاق الدوحة الذي تلى معارك السابع من أيّار 2008، وليس انتهاءً بالربيع العربي، والانقسام العامودي في ما يخصّ الموقف من الثورة السورية ومشاركة حزب الله في القتال إلى جانب النظام. لكن كلّ تلك الأحداث لم تنجح حتى الآن في سرقة الأضواء من الحرب الأهلية التي ما زالت حتّى اليوم الموضوع الرئيسي في معظم النتاج الفني اللبناني، من الأدب والفن التشكيلي إلى السينما، بشقّيها الروائي والوثائقي.

 

انطلاقاً من هنا يبدو الفيلم الوثائقي القصير "لبنان يفوز بكأس العالم" (إنتاج 2015) متّسقاً مع الإنتاج السينمائي اللبناني. يعود المخرجان طوني خوري وأنتوني لابي في فيلمهما (المتاح للمشاهدة مجاناً خلال كأس العالم على "فيميو") إلى زمن الحرب، ليس بهدف الحديث عن وقائعها بل رغبة باكتشاف العلاقة التي تجمع بينها وبين كأس العالم لكرة القدم، مستعينان من أجل ذلك بمقاتلين سابقين جمعهما حبّ المنتخب البرازيلي.

 

ينقسم الفيلم الممتد بطول 22 دقيقة إلى قسمين متساويين من حيث المدّة الزمنيّة، قسم أوّل تدور أحداثه خلال فترة الحرب الأهلية، فيما تدور أحداث القسم الثاني في العام 2014 خلال بطولة كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في البرازيل.

 

بين الشرقية والغربية

 

على نسق الوثائقيات التلفزيونية يبدأ القسم الأوّل بتترات ومواد أرشيفية تشرح في سردٍ سريع الوضع السياسي في لبنان منذ نيله الاستقلال عن فرنسا في العام 1943 وصولاً إلى اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975. بعد هذه المقدّمة السريعة نتعرّف بشكل منفصل على رجلين قاتلا في شبابهما ضد بعضهما البعض: حسن بري المقاتل في صفوف الحزب الشيوعي بين العامين 1979 و1982، وإدوارد شمعون المقاتل في صفوف القوات اللبنانية بين العامين 1975 و1986. نحن أمام رجلين يقفان على طرفيّ نقيض، قاتل حسن من أجل "العدالة الاجتماعية والقضاء على الطغمة المسيطرة على الاقتصاد"، فيما قاتل إدوارد "لحماية الوجود المسيحي وخوفاً من الإبادة".

 

 

يتغيّر أسلوب السرد مع انتقالنا إلى ليلة الخامس من تموّز من 1982، لنتابع بمزيج من المشاهد المعاد تصويرها ولقطات أرشيفية من المباراة ومقابلة حسن، هزيمة البرازيل من إيطاليا في كأس العالم ومن ثمّ إصابة حسن جرّاء القصف ممّا دفعه لترك القتال.

لكن ليس حسن وحده من يشجّع البرازيل، بل كذلك إدوارد الذي نتعرّف سريعاً على حبّه لفريق زيكو وسقراط وسيرجينيو. ليست هذه نقطة الالتقاء الوحيدة بين الشخصيتين، إدوارد أيضاً أصيب برصاصة في قدمه في العام 1978، ممّا سبّب له عرجاً دائماً في قدمه اليسرى. مع الوصول إلى هذه المرحلة يصير الفيلم مثيراً للاهتمام، رغم العداء المفترض بينهما إلّا أنّ الحياة جمعتهما بينهما في حبّ البرازيل وفي جراح الحرب.

 

أعداء الأمس، أصدقاء اليوم لكن كيف؟

 

لا تجتمع الشخصيتان في الجزء الأوّل من الفيلم. سجّلت مقابلة كلّ واحدٍ منهما بشكل منفصل، تصوّرهما الكاميرا بلقطة مقربة (كلوز آب) جالسين أمام خلفية داكنة، ينير الضوء نصف وجههما فقط، ممّا يكسب حديثهما صبغة الاعتراف، انطباع تعزّزه الموسيقى ذات الطابع الجنائزي للمؤلف الموسيقي اللبناني أوك. لكن مع بداية النصف الثاني ستتغيّر الصورة تماماً، نحن في العام 2014، كأس العالم في البرازيل بدأ والناس نزلت إلى المقاهي والساحات لمشاهدة البطولة والاحتفال بفرقها.

 

 

من هنا ينكشف مسار السرد ويصير واضحاً أنّ الشخصيتين ستتعرفان على بعضهما البعض. يمهّد لذلك اختفاء المشاهد المعاد تصويرها واللقطات الأرشيفية، واتساع كادر الكاميرا وامتلاءه بالألوان، كما انعكس ذلك بالموسيقى التي صارت أكثر فرحاً.

يلتقي حسن وإدوارد، يتبادلان المجاملات، ويشاهدان مباراة البرازيل ضد تشيلي في دور الستة عشر معاً. يحتفلان سوياً بالفوز ويردّدان المجاملات نفسها أمام الكاميرا هذه المرّة. ينتهي اللقاء على هذه الصورة، لنشاهد بعدها موقف حسن وإدوارد، كل على حدة، من هزيمة البرازيل بسبعة أهداف من ألمانيا ومزيداً من الكلام عن بشاعة الحرب وكيف جمعت بينهما كرة القدم، تماماً كما جمع نيلسون مانديلا البيض والسود في جنوب أفريقيا في مباراة ركبي كما يقول حسن.

 

ينتهي الفيلم على هذه الخلاصة: الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً، تصلح ما تفسده السياسة. وهي الخلاصة التي تظهر منذ بداية الفيلم رغبة المخرجين بالوصول إليها.

منذ البداية اختار خوري ولابي الابتعاد عن "الخطر"، إذا صح التعبير. يأخذان نفساً حيادياً تماماً وتبسيطياً في آن واحد، يعتبر أنّ الحرب الأهلية كانت بشاعة ومجازر متبادلة بين المسلمين والمسيحيين. لا يسعى المخرجان للتعمق أكثر في أسباب انسحاب حسن وإدوارد، رغم وضوح اختلافها. ففيما يظهر بشكل واضح تخلّي حسن عن قناعاته السابقة، وهو ما انعكس بانسحابه من الحرب بعد إصابته، لا يبدو ندم إدوارد على مشاركته في الحرب خارجاً عن أنّها أدت لإصابته، هو الذي واصل القتال ثمانية أعوامٍ أخرى بعدها، والذي تظهر صورة لبشير الجميّل فوق باب منزله بشكل عرضي في إحدى اللقطات.

 

حتّى لقاء التعارف الوحيد لم يظهر سوى في لقطاتٍ ترافقها الموسيقى معظم الوقت، مع كلماتٍ قليلة لا تختلف كثيراً عن عبارات المصالحة والتعايش المجاملة كالتي تردّدها الطبقة السياسية. لم تحدث مواجهة بين الطرفين، ولم يتذكرا سوياً سنوات الحرب، ولم يتبادلا حتّى رؤاهما السياسية الحالية أو السابقة.

كل ذلك لا أهمية له بالنسبة لصانعي العمل اللذين فرضا على الفيلم ومشاهديه وجهة نظرهما القائلة إنّ الرياضة تصلح ما أفسدته السياسة! المقولة التي لا تصمد كثيراً أمام التدقيق.

 

 

كرة القدم نقيض للسياسة؟

 

منذ زمنٍ طويل شكّلت كرة القدم، لكونها اللعبة الأكثر شعبية في العالم، منفذاً للأفكار السياسية وللصراعات بين الأمم وحتّى للاستغلال من قبل السياسيين، بالقدر نفسه الذي ساهمت فيه بتقريب الناس من بعضهم البعض والحد من الصراعات السياسية. تكثر الأدلّة على ذلك، من "حرب كرة القدم" التي اندلعت بين السلفادور وهندوراس إثر مباراة في تصفيات كأس العالم، فجّرت الأحقاد المتراكمة بين البلدين، إلى يد مارادونا الشهيرة أمام إنكلترا بعد حرب الفوكلاند، وصولاً إلى تبادل لاعبي منتخبيّ إيران والولايات المتحدة الورود في مونديال فرنسا 98، وليس انتهاءً بمحمد صلاح الذي قدّم تألّقه مع "ليفربول"، من حيث أراد أم لم يرد، خطاباً مضاداً للإسلاموفوبيا السائدة في بعض الأوساط الأوروبية مؤخّراً.

 

 

عمل العديد من المخرجين في أفلامهم على إظهار العلاقة الوثيقة بين كرة القدم والسياسة، مثل أمير كوستوريتسا في فيلمه عن مارادونا أو جايمس ارسكيني في فيلمه "ليلة في تورينو" أو سام بنستيد في فيلمه "المدرب زوران ونموره الأفريقية". بحثت هذه الأعمال بشكلٍ أعمق في التأثيرات المتبادلة بين المجالين وقدّمت وثيقة أكثر نباهة من "لبنان يفوز بكأس العالم" الذي امتلك عناصر قوة كبيرة فشل طوني خوري وأنتوني لابيه في توظيفها في صورةٍ بعيدةٍ عن الفولكلورية اللبنانية المعتادة والتبولة والحمص والزجل. قد يكون من المفيد في هذا السياق استعادة الوثائقي التلفزيوني "بيروت رصاص وكرات" للمخرج الفرنسي باتريك لافون الذي عرض في العام 1992.

 

بيروت رصاص وكرات

 

في المدينة الخارجة لتوّها من حرب استمرت خمسة عشر عاماً، وحيث تحوّلت أبنيتها الفارهة إلى أطلال وصارت الماشية تسير جنباً إلى جنب مع الناس، اختار باتريك لافون أن يتتبّع كرة قدم تدور لوحدها في الشوارع، لتوصله إلى نادي "النجمة"، النادي الأكثر شعبية في لبنان.

 

 

تشغل لافون في الفيلم ثيمتان أساسيتان: علاقة جمهور النجمة بفريقه وأثر الحرب عليهم وعلى فريقهم ولاعبيه، فتتنقّل الكاميرا طوال الوقت بين الجماهير وبين اللاعبين. لا يخرج الفيلم بخلاصة واحدة ولا يفرض وجهة نظر معيّنة على المشاهد. نعم أنت ترى حبّ الجمهور للفريق وكيف شكّلت اللعبة ملجئاً لهم في الحرب وترى كيف كانت خلاصاً لعددٍ منهم وإنقاذاً لهم من الانخراط في الميليشيات والعمل المسلح، لكن دون سعي لتجميل الحقيقة. يقول اللاعبون إنّهم يحبّون زميلهم المسيحي الوحيد في الفريق ويؤكّدون أنّهم لا يفرقون بين الناس على أساس الدين، لكن حين تنفرد الكاميرا بإيلي يعترف بأنّ بعض اللاعبين لا يعاملونه بمودّة كما يدعون. من جهة أخرى يتحدّث محمود حمّود وعلي جابر عن فترة المعارك بين حزب الله وحركة أمل، وكيف كانا يحملان السلاح في وجه بعضهما البعض في الشوارع ثم يتدربان سوياً في الملعب.

 

على الرغم من أنّ أي مقارنة بين "بيروت رصاص وكرات" و"لبنان يفوز كأس العالم" تميل لصالح الأوّل، إلّا أنّ فيلم طوني خوري وأنتوني لابي يظلّ يستحق المشاهدة، فهو في النهاية من الأفلام اللبنانية القليلة جدّاً التي تتحدّث عن كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في لبنان، كما في بقية العالم.

 
المشاركة
عرض المزيد