مقالات بدايات
اقرأ النصّ بالانجليزية

الوجود مقاومة: تحليل لفيلم واجب

04/10/2018

الثقافات ليست متطابقة، هناك ثقافة رسمية... فهي توفر ... ما أسميه بالانتماء... بالإضافة إلى الثقافة الرسمية هناك خيوط مخالفة أو بديلة، غير تقليدية، أو متجانسة

الكاتب: أيمن مكارم

"هل يتوقعون موجة أخرى من روسيا؟" يسأل شادي والدَه ساخراً، وهو يقود سيارته عبر مجموعة من المستوطنات اليهودية التي صُمّمَتْ بشكل عديم الذوق. هذه واحدة من الإشارات المباشرة القليلة للمشروع الاستعماري الصهيوني، من فيلم آنْ ماري جاسر الأخير، واجب (2017).

قُلّلَ من شأن تسلسل أحداث الفيلم بشكل عام، فهو يسرد قصة بسيطة جداً عن أحد المغتربين الفلسطينيين، العائد إلى موطنه الناصرة، لمساعدة والده في التحضير لحفل زفاف أخته بتوزيع بطاقات الدعوة على العائلة والأصدقاء. إذن الفيلم من هذا المنطلق هو عبارة عن مزيج غريب بين الدراما العائلية وفيلم السفر.  إنّ ما جعل الفيلم جذاباً بشكل خاص هو المواضيع المتصارعة والمتنوعة التي نشأت خلال رحلتهم، خاصة بسبب الوضع داخل المجتمع الفلسطيني في "إسرائيل".

لا يبدو أن شادي يتفاهم مع والده على مجموعة من القضايا: إصرار أبو شادي على شراء الكراسي البلاستيكية القبيحة والمشمّع الأخضر، وتدخينه على عكس تعليمات الطبيب، والبنية التحتية المتداعية في المدينة، والتوقعات المجتمعية المتنوعة... القائمة تطول. فكلُّ زيارة عابرة تجلب معها توترات جديدة في السيارة؛ إذ يُنَاقِش شادي والده في مواقفه التقليدية القديمة، على الرغم من أن الاثنين يختلفان حول العديد من القضايا، إلا أنهما يواصلان زيارة الأقارب والمزاح على الطريق، بل والتوقف لتناول الحُمّص، والكابتشينو، وفي إحدى الحالات، يرفعان الإصبع معاً لأسقف عسكري.

لكنّ شيئاً واحداً فقط يسبّبُ الضيق لشادي، ألا وهو: قرار والده بـدعوة يهودي "إسرائيلي" إلى حفل الزفاف. ووصف أبو شادي، وهو ما زال مُعلّماً لمّا يُصبح بعدُ مديراً للمدرسة، لآفي على أنه صديق، وهو في واقع الأمر مديره، وعضو في وزارة التربية الإسرائيلية. كما يتّهم شادي والده بالسعي لنيلِ ترقيةٍ من خلال التعاون مع الصهاينة، ويزيد من إحباطه حقيقة أن والد صديقته عضو سابق في منظمة التحرير الفلسطينية. إن وصف شادي لذلك الرّجل بالمُفكّر القوي المتمرّس في شؤون الحياة، يأتي متناقضاً بشكل صارخ مع نظرته إلى والده، خاصة فيما يتعلق بمواقفه وأفعاله تجاه دولة إسرائيل. أمّا بالنسبة لشادي ومعبوديه أولئك الذين يعيشون في الخارج، فإنّ النضال هو ضد الصهيونية، وعلى الفلسطينيين إذن أن يبقوا في مواجهة الواقع الظالم لدولة إسرائيل نفسها. هذا التنافر هي نقطة الخلاف الرئيسة بين الاثنين: يتّهم الابن والده بالتعاون وبالتالي عدم مقاومة الصهيونية، ويتّهم أبو شادي ابنه بالمثالية والسذاجة.  وحيث لا يوجد سوى اثنتين من هذه المواجهات المباشرة في الفيلم فإنّ باقي الحوار، خاصة مع المستضيفين، لا علاقة له غالباً بالصهيونية، بل يبحث في جوانب الحياة الفلسطينية التي كثيراً ما تتجاهلها وسائل الإعلام الغربية والتغطية الإخبارية.

 

 

وبصرف النظر عن التصوّر المتهالك للفلسطينيين على أنهم إرهابيون، وهو أمر ليس من الضرورة التطرق له هنا، فإن معظم التغطية الإعلامية للفلسطينيين تصورهم عبارة عن ضحايا للعدوان الإسرائيلي. وبالرغم من صحة هذا بالطبع، إلا أنه يحصر الفلسطينيين بعلاقتهم بالصهيونية ولا يعبر عن الثقافة الغنية والمفعمة للشعب الفلسطيني. فقد عبر محمود درويش عن هذا الإحساس الدقيق بأكثر الطرق إيجازاً عندما قال في مقابلة مع صحفي "إسرائيلي" (في فيلم موسيقانا للمخرج غودارد)، "هل تعرف لماذا الفلسطينيون مشهورون؟ لأنكم عدونا. ينبع الاهتمام بنا من الاهتمام بالمسألة اليهودية. الاهتمام بكم لا بنا". الشيء الممتع في فيلم واجب هو أنه استطاع أن ينقل وجهي العملة نفسها: الفلسطينيون الشعب الضعيف والمضطهد، ولكن أيضا الشعب ذو الثقافة التاريخية النابضة بالحياة بشكل مستقل عن الحاكم.

 

إنَّ تصوير فيلم واجب للمجتمع الفلسطيني داخل الناصرة هو احتفاء واستكشاف عميق بنفس الوقت. فمن الصعب إحصاء عدد المنازل التي يدخلها شادي ووالده، لكنَّ كلاً منها غني ومتميز، ويكشف عن وجه آخر للمجتمع. وقد تم تصميم معظم المنازل بشكل تقليدي للغاية، مع غرف جلوس أنيقة ومُرتّبة خاصة للضيوف. وما إن يجلس شادي وأبوه، تأتي كميات لا متناهية من القهوة، كما لو أنها حُضِّرت مسبقاً. يختلف الحوار في كل بيت، ولكن عادة ضمن الإطار التقليدي المقبول: عزوبية شادي التي طالت، حياته وعمله في الخارج، المسائل العائلية... صُوّرت هذه الزيارات التقليدية لتعبّر عن الحياة بشكل شديد، ومؤلم تقريباً.

هذه هي الثقافة التقليدية الرسمية، المليئة بالمحادثات الرسمية والزائدة عن الحاجة. حتى عنوان الفيلم، واجب، هو رمز لهذه الثقافة الرسمية. على سبيل المثال، لا يفهم شادي لماذا يصرّ والده على الخوض في هذه الالتزامات الاجتماعية بدقة شديدة. وهو يتساءل باستمرار عن التزام والده بها، ويشكو من أنها قديمة الطراز أو غير ضرورية. وشادي في هذه الحالة، بمقاومته للثقافة الرسمية، وشعره الطويل، وملابسه الملونة، يجسد الثقافة المضادة. إذ لا يوجد تصوير لثقافة كاملة دون تصوير هؤلاء ضمن المجتمع والموجودين خارج الشكل الرسمي. وتشرح هنا كلمات إدوارد سعيد بالتفصيل ما يشكل ثقافة ما:

"الثقافات ليست متطابقة، هناك ثقافة رسمية... فهي توفر ... ما أسميه بالانتماء... بالإضافة إلى الثقافة الرسمية هناك خيوط مخالفة أو بديلة، غير تقليدية، أو متجانسة. يمكن أن تسمى بالثقافة المضادة."

يصور الفيلم المجتمع الفلسطيني على أنه مزهر ومتنوع، ولا يقتصر فقط على النمطية الشرقية المتصالّبة والمضجرة والمتآكلة. المهم هنا هو أن جميع العائلات التي نراها، والمحادثات التي نسمعها، والأطعمة والمشروبات التي يتناولونها، هي عناصر الحياة الفلسطينية بغض النظر تماماً عن وجود الصهاينة. نرى الثقافة والتقاليد ظواهرَ مستقلةٍ، كما كانت قبل ظهور المستعمرين الصهاينة في فلسطين.

إن فيلم واجب مهم بشكل خاص في سياق إحدى الاستراتيجيات الرئيسية للمجتمعات الاستعمارية الاستيطانية: الاستراتيجية الصهيونية لمحو التاريخ والثقافة والمجتمع الفلسطيني (وفي النهاية الفلسطينيين أنفسهم). فمن خلال التصور الاستشراقي، قام الصهاينة بتصوير الفلسطينيين شعباً وحشيّاً وعنيفاً بالفطرة، مما يبرّر العدوان عليه. في هذا السياق، يقدّم الفيلم نفسه خدمةً لمواجهة ومقاومة هذا الخطاب. والفيلم بأكمله يفعل ذلك، لكن مقاومة محو الهوية هو جانب أساسي أيضاً، رغم أنه ضمني، من النقاش بين الأب والابن.

في نهاية الفيلم، يوجه أبو شادي ابنه إلى نفس المستوطنة اليهودية، ومرة أخرى، يرفض شادي ويشرع في الجدال الأعمق بين الاثنين. فيتّهم والدَه بالتعاون، والجلوس ببساطة والسماح للصهاينة باستعمار أرضه والسيطرة على حركته. "لقد كبرت وأنا أشاهدك تسأل للحصول على إذن بالعمل، والعيش، والتنفّس!". يخرج أبو شادي من السيارة ويبدأ بالصراخ وللمرة الأولى في الفيلم، ويعبر عن مشاعره ودوافعه. يسأل ابنه سؤالاً جديّاً، "أين فلسطين التي تريد تحريرها؟ أين هي؟!". هنا يتّهمُ ابنَه بالمثالية البحتة، بإهمال الظروف المادية للفلسطينيين الذين يعيشون تحت السلطة الإسرائيلية. فما معنى "تحرير فلسطين" إن لم يُوفّر للفلسطينيين أنفسهم القدرة على العمل وتربية الأطفال والعيش بكرامة في نهاية المطاف؟ يدّعي أبو شادي أنّ هذا هو كلُّ ما فعله، ممّا يعني أن فكرة فلسطين لا شيء إن لم تكن للشعب الفلسطيني. لم تتحقق جميع إنجازات أبو شادي بسبب وجود "دولة إسرائيل" ولكن على الرغم من ذلك، وأبو شادي يدرك جيداً هذه الحقيقة. ففي منتصف كلامِه الصاخب، يتراجع عن شيء يبدو وكأنه اعتراف، عندما يقول لابنه: "أنت لا تعرف ما هم قادرون عليه!". كانت أفعاله تحت التهديد الضمني بالعنف، وأنه كان أمام خياراتٍ محدودة: إمّا القتال أو تربية أولاده والبقاء على قيد الحياة.

 

 

إذا لم يأخذ نقاش إنهاء الاستعمار بعين الاعتبار تجربة ونضالات الأشخاص الذين يعيشون في ظل النظام القمعي الاستعماري، فإنه لا مفر من أن تكون عديمة القيمة بالنسبة لهؤلاء الأشخاص أنفسهم الذين تحاول مساعدتهم. هنا نرى تعمقاً أصلياً في الخطاب من وجهة نظر أبو شادي. إذا كان ما يقوله شادي صحيحاً، أن الصهاينة هم الأعداء، وعازمون على تدميرهم، ثم في النهاية، يبقى أبو شادي موجوداً، وجهوده للحفاظ على التقاليد والثقافة الفلسطينية أليست بحد ذاتها شكلاً من أشكال المقاومة؟ إنها جملة شائعة، وأبو شادي مثال على ذلك: البقاء بحد ذاته هو شكل من أشكال المقاومة.

هما في الواقع وجهان لعملة واحدة. يوجه شادي نفسه على أنه معادٍ للصهيونية، من ملاذه الآمن في إيطاليا وينظّر وينتقد الأيديولوجية التي تقف وراء دولة إسرائيل. يمكن للمرء أن يتصور أنه جزء من حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات في إيطاليا، أو كاتب مقال رأي حول تاريخ الصهيونية. أما والده، من ناحية أخرى، يقاوم الدولة بطريقة أخرى، بالبقاء في مكانه والصمود. فبدون أبو شادي، لن يحظى شادي وأمثاله بأي شيء ليحرروه، في حين أن مفهوم فلسطين لاشيء بدون الفلسطينيين أنفسهم (بما في ذلك ثقافتهم وتقاليدهم..). وبدون شادي والحلفاء الأجانب، فإن محاربة الدولة عن بعد (بعيداً عن التهديد المستمر بالعنف) عن أولئك الذين يعيشون في فلسطين سيصعّب إحداث التغيير.

يختتم الفيلم بأغنية موسيقى الروك تأدية جوان الصفدي "مين بدو يركبنا". كلمات الأغاني غالباً ما تكون ساخرة ولكنها تعزّز موضوع الصمود و البقاء كوسيلة للمقاومة. تترجم بشكل فضفاض وتبدأ "أجوا الأتراك، راحوا الأتراك ، أجوا الإنجليز، أجوا الإنجليز، أجوا اليهود، بكرا بنشوف، شو رح يصير، لما يروحوا، من بدوا يركبنا، لما يروحوا". على الرغم من كونه كوميدياً، ومع هذا الفارق البسيط، تشير الأغنية إلى أن الفلسطينيين، من خلال المحافظة، قد تجاوزوا حكاماً كثيرين، وسيشهد يوماً ما فلسطين خالية من الصهيونية. تكمل الكلمات النقطة السابقة من خلال تصوير الفلسطينيين، ليس فقط كضحايا الصهيونية، ولكن كشعب تاريخي. حول هذه النقطة، يقوم كل من أبو شادي والفيلم ككل بعمل الشيء نفسه، حماية الثقافة الفلسطينية وتمكينها. من خلال القيام بذلك، يعمل كلاهما كقوة مقاومة ضد الإستراتيجية الصهيونية الاستعمارية لمحو الهوية. من خلال هذا المحافظة، نجا الفلسطينيون من كل الغزاة السابقين. هذا، إذا لم يكن شيئاً آخر، فهو رسالة تبعث على الأمل في المستقبل.

 

المشاركة
عرض المزيد