مقالات بدايات

أفلام تجريبية في السرد والجمالية

24/10/2018

"متوسّط"، "يمان"، "الولد والبحر"

الكاتب: علاء رشيدي

 

كلا المصطلحين "أفلام تقليدية" و "أفلام تجريبية" غير قابلين للتحديد، وغير دقيقين، ويشملان بلا تمييز طيفاً واسعاً من الأنواع السينمائية والفيلمية. لذلك، حاولنا في هذه الورقة أن نبين العناصر السينماتوغرافية في كل فيلم، والتي سمحنا لأنفسنا على أثرها أن نطلق عليها صفة "أفلام تجريبيّة". لكن الأهم، وما ترغب هذه الورقة تحقيقه، هو إثبات قدرة السينما التجريبية، وسينما Stop - Motion (1) والتحريك، على مقاربة قضايا إنسانية ذات أبعاد سياسيّة، اجتماعية، ثقافيّة واقتصاديّة مثل تلك التي تعالجها الأفلام الثلاثة الآتية، والتي يمكن مقاربتها جميعا مع الحدث السوري اليوم.

 

 

قد توحي للمتلقي اللقطات الأولى من فيلم "متوسّط"  للمخرج طلال خوري، بأنه إزاء فيلم يحتفي بمنتجات الكاميرات العالية التقنيات، فيعتقد المشاهد لوهلة أنه أمام فيلم يسعى فيه المخرج إلى الإبهار البصري التكنولوجي دون أن يتجاوز فكرة خلق صور جمالية – تقنيّة مبهرة، وخصوصاً أن مخرج الفيلم "طلال خوري" عرف في العديد من الأفلام الناحجة كمصور ماهر بنتائج متميزة. إلا أن هذا الانطباع الأولي الذي قد يتبادر إلى ذهن المشاهد مع بداية الفيلم لا يلبث أن يتلاشى حيث يتأمل المتلقي موضوعة الفيلم، أي الهجرة البحرية اليومية لجماعات اللاجئين عبر ضفتي البحر المتوسط الجنوبية والشمالية.

 

موضوعة تشغل حالياً الإعلام العالمي، المجتمع الدوليّ، المنظمّات الإنسانية الدولية وغير الحكومية، والعديد من الأنظمة الدولية مثل دول الشمال الإفريقي ودول الاتحاد الأوربي. إذاً إن إختيار المخرج لمثل هذه الموضوعة، لابد أن يفتح خيال المتلقي للتساؤل عما وراء الجماليات البصرية والتقنيات السينمائية.  في العرض الذي تم للفيلم في أمسية الأفلام اللبنانية القصيرة في سينما صوفيل – ميتروبوليس بيروت هذا العام، أهدى طلال خوري الفيلم إلى  : "اللاجئين الذين يعبرون البحر، هرباً من موت للقاء موت آخر"، تصريح كهذا يبين للمتلقي أنه إزاء مخرج واعٍ بإختيار موضوعته، وربما راغب بتسخير تقنيات التصوير العالية في خدمة موضوعة تعتبر من موضوعات الفن الملتزم، وهذا ما يتوثق منه المشاهد خلال دقائق التالية في الفيلم. المخرج "طلال خوري" في فيلم (متوسط ) يقترح تجربة جديدة بين المتلقي والفيلم السينمائي تحتاج إلى المزيد من التأمل.

 

في تغييب للسرد التقليدي، يسعى المخرج "طلال خوري" إلى اقتراح مقاربة جديدة بين المشاهد والشاشة، فهو يضيف إلى التلقي السينمائي مقترح محاولة إقحام المشاهد في عيش تجربة وجدانية – مشاعراتية - وذهنية عبر الشاشة السينمائية. تتمثل هذه التجربة بعبور البحر أمام أمواج الكاميرا المتلاطمة والتي تحتل كامل الشاشة في بعض اللقطات، كأن الفيلم يدفع بالمتلقي إلى معايشة تجربة عبور البحر بأمواجه الهائلة، الإحساس بالخطر، التفكير بالغرق، وتخيّله أكثر مما هي تجربة الفرجة عليه متمثلا كحدث مصوّر واقعياً على الشاشة.

 

هذه النقطة تحسب لصالح الفيلم فالقليل من التجارب من السينما العربية اتبعت أسلوب دفع المتلقي لعيش تجربة مشاعراتية وذهنية بدلاً من الإقتراحات السردية التقليدية بالتفرج وتحليل الحكاية حسب السرد التقليدي بين الشاشة وذهن المتلقي. وفي هذا الإطار يشتغل فضول الناقد على أي اتجارب السينمائية، أي الأفلام التي اعتمدها طلال خوري كمرجعية حين فكر بتحقيق فيلم يحث المتلقي على المعايشة أكثر مما يدفع إلى الفرجة؟

 

يموضع المخرج طلال الكاميرا في زوايا ومنظورات تحاول ما أمكنها أن توصل المشاهد إلى لحظات من الطفو والغرق فوق الماء وتحته، كأنها محاولة لمعايشة تجربة الغرق التي يعايشها العشرات والمئات من المهاجرين بين ضفتي البحر المتوسط ،البحر الذي يحمل الفيلم اسمه عنواناً. متلاعباً بحركة الكاميرا وسرعة اللقطات. يدمج المخرج في هذا الفيلم بين المتعة البصرية التشكيلية التي تكونها اللقطات، وبين تجربة القلق والخوف وانعدام الأمل بالنجاة التي يعايشها الغارقون في مياه المتوسط، ورويداً رويداً يخلق المخرج بين الموج المتكرر على الشاشة إيحاءاً بالأجساد الغارقة سواء تلك التي تطفو فوق سطح الماء أو تلك التي تغوص في العمق تحت السطح.

 

تبتعد خيارات المخرج في التقاط الجثث الغارقة في البحر عن الواقعية، بل هي تحاول ما أمكنها أن تستخرج الجماليات البصرية من حالة جثة غارقة أو جثة مستسلمة لحركة المياه التي ابتلعتها، فاللقطات بالإضافة إلى خيارات المونتاج توضح المحاولات التي سعى إليها المخرج بالدمج بين رهبة الموت والجثث الغارقة، وبين الاحتمالات الجماليّة التي توّلدها حالة متابعة جثة غارقة سينمائياً. تفاصيل تشكيلية تلتقطها العدسة لجثة أنثوية غارقة، تطاير الشعر وحركته الشعرية تحت الماء، تمر الكاميرا مجانبة على الأطراف، الأكتاف، وعند حدّ الوجه دون أن يظهر المخرج أي تفصيل مباشر واقعي، هذا هو نموذج من تعامل المخرج في فيلم (متوسط) مع الموضوعة التي أراد تناولها.

 

 

عناصر التجريب :

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(مرحباً، أنا يمان، مخترع، طلعت براسي فكرة اختراع خارق ممكن يغير حياتي)

بهذه العبارة يفتتح الفيلم، حيث يروي "يمان" في عالم من الأغراض الخارقة الطفوليّة المصنوعة من الألوان المائيّة والأشغال اليدويّة، وديكور سينمائي مصنوع من أوراق الكرتون ومادة المعجون في تكوين الأشياء والأغراض، يتابع المشاهد الإنصات إلى ما يقوله الطفل (يمان) عن نفسه.

 

هكذا يبنى عالم الفيلم، أي غرفة (يمان )، فمثلاً ساعة منزل (يمان) من الكرتون، حلم (يمان) عبارة عن ورقة كرتون بيضاء يرسم داخلها الحلم وتحرك عناصره، قنينة عطر يخرجها (يمان) من جيبه تتحول إلى قطرميز اختراع، نقط دم تسيل على إصبعه مصنوعة بمادة المعجون، أكياس نايلون زرقاء تنزل من فوهة الحنفية بدلاً من الماء، كل ذلك يخلق عالماً مليئاً بالأفكار التي تعود إلى سينما التحريك منفذة بتقينة التصوير المتحرك سرعة وبطءاً. عالم مليء بالمبتكرات التي تستعاض عن التمثيل الواقعي للأشياء، تمنح السرد إيقاعاً سريعاً، وتخلق أجواء من الخفة والإبتكار المستمر على طول دقائق الفيلم الذي يجري بمجلمه في عزلة (يمان) في غرفته، والتي سيروي لنا فيها عن اختراعه. كل الأجواء توحي بعوالم البصرية المرتبطة في المخيلة الجمعية بالإبتكار والإختراع. لكن ما هو اختراع (يمان) ؟

 

الفكرة التي تخطر على بال الفتى المخترع "يمان" هي آلة، من أنابيب كرتونية، بواري ألمنيوم، علب حرارة من المعجون، وأزرار كرتونية أيضاً، وفكر "يمان" هي أن يضع أوراق المحارم المنكوشة والمبعثرة في أحد طرفي الآلة، لتخرج من الطرف الآخر لها منظمة، مطوية ومرتبة. يقول "يمان" عن الآلة : "هيي الآلة رح تخليني حول المحارم من الحالة الساكنة للحالة المتحركة، يعني محارم خارقة"، ربما تبدو هذه التفاصيل للمتلقي زخرفات مبالغة، لكن أهميتها تتضح في نهاية الفيلم ومع معرفة الحياة الحقيقة ل"يمان".

 

فجأةً، يخطر على بال "يمان" أنه حان الوقت ليعرفنا على عائلته، أين هم أهله ؟ أين هي عائلته ؟ تنتقل الرؤية حينها إلى تلفزيون يعرض بداخله صورة مشكلة من المعجون والكرتون لمنزل تحلق  من فوقه طائرة وتلقي ببرميل كتب عليه ( TNT). بدأت الحقيقة تتكشف، وعائلة (يمان) مثل العديد من العائلات في الحدث السوري، فُقدت، فارقت الحياة تحت القصف التي عرفته المدن السورية خلال السنوات الماضية، والبراميل المتفجرة خصوصية بإمتياز للقصف الوحشي التي عرفته المدن السورية خلال السنوات الماضية بتكرار.

 

ومن بعد انكشاف مصير عائلته المأساوي، كأن العالم الجماليّ والسرديّ الذي بناه المخرج محيطاً ب"يمان" قد انهار، ينتقل الفيلم في دقيقته الأخيرة، من فيلم فانتازي، ليقدّم أوّل لقطة بالكاميرا الواقعية، ويدرك المشاهد أن أحداً يجبر "يمان" على الخروج من مخبأه ويدفع به إلى الشارع، بينما يقول "يمان" الحقيقة المرة: ("أنا يمان، عمري 11 سنة، صرلي سنتين عم بيع محارم، بس بتمنى كون مخترع ".

 

إذاً، باتجاه الحقيقة، كان السرد في الفيلم معكوساً. الفيلم روى قصة "يمان" بطريقة معكوسة، فالمتلقي يدخل بدايةً في حلم (يمان)، في عالم مبتكر خلاّق، تسوده الخفة والمرح، لكنه ليس إلا أمنية ل"يمان" الحقيقي، ف"يمان" الحقيقي هو من أولئك الأطفال السوريين الذين خلت بهم السبل إلا لبيع المحارم عند إشارات مرور الشوارع، وعلى أطراف الأوتسترادات، مجبرين  على تخيّل بأنهم يتعلمون ويطورون مهاراتهم، ويتمنون في كل دقيقة واقعاً مغايراً لما يعيشون.

 

خيار ذكي من المخرج في تحويل الحكاية، فبدلاً من أن نتعرف على واقع "يمان" ثم نستمع لأمنيته بحسرة، يختار المخرج أن يدخل المتلقي في عالم متخيل ومبتكر من سينما التحريك والفانتازيا، لينقله بعداً وبصدمة قويّة إلى تصوير واقعيّ يظهرُ له حقيقة "يمان" ويذكرنا جميعاً بمأساة الطفولة السورية الناتجة عن سنوات الحرب والدمار الذي تعيشه البلاد منذ سبع سنوات. كلّ ذلك بمرافقة موسيقى تصويريّة غاية في الذكاء، ومليئة بالتنوعات والتكيفات المرافقة لمجريات القصة، فتتبدل لعدة أنواع الإلكترونيّة الصرف، موسيقى الروك، موسيقى الآلات المسجّلة، وموسيقى تصويرية بحتة. الموسيقى من تأليف وتنفيذ : سيمون أبو عسلي.

 

في فيلم "يمان" ينجح المخرج ببناء عالم يوهم المتلقي بالراحة والطمأنينة لكنه يقدم له في نهاية التجربة الواقع المأساوي لوضع الطفولة السورية.

عناصر التجريب :

 

 

 

 

فيلم تحريك يعتمد أيضاً منحى تجريبياً على المستوى البصري وعلى المستوى السرد القصصي.

 

يفتتح الفيلم على صورة بانورامية لمدينة تبدو أبنيتها تعرضت للخراب والدمار، دخان الحرائق الأسود يخرج من بقايا ركامها، لاشك أن الإشارة مباشرة إلى واقع المدن السورية خلال الأحداث العنفية التي تعيشها البلاد. تصل بنا حركة الكاميرا إلى ولد يرسم على ورقة، سمكة. تتجسد السمكة أمام الولد، وهو يقفز داخل الورقة لتصل به إلى عالم ما تحت قاع الماء.

 

العوالم السينماتوغرافية تمتزج بين الشعرية، وبين الفانتازية المروية بمنطق رسومات الأطفال، في رحلة الولد تحت الماء، نلمح أبنية المدينة تنعكس مقلوبة أبراجاً داخل الماء. يقابل الولد أثناء سباحته أسراباً من الأسماك، يحاكي حركتها فتحاكي حركته، بالتقليد يُبنى بينهم تواصلاً، يصل حد الملامسة. الملامسة تحول الطفل وتعطيه هيئة سمكة.

 

لكن ما الذي ترغب حكاية الفيلم أن ترويه؟ يلخص صانع الفيلم "سامر عجوري" في تقديمه عن الفيلم، الحكاية: "كان يا ما كان في طفل يحب رسم البحر. غطس ذات يوم في أعماق البحر على أمل أن يفلت من الحرب والفقر. ولكنه علق في دوامة شاشات تلفزيونية تشوه صورته وتجرده من حكايته".

كما في تلخيص الحكاية التي كتبها سامر العجوري، تتابع أحداث الفيلم. فالولد الذي تحوّل سمكة هو يشاهد كيف تُرسم صورته في داخل شاشات التلفزة، كما يذكرها صانع الفيلم في تقديمه للفيلم وهي قصة الطفل السوري "إيلان" الذي قذفته الأمواج جثةً على الشاطئ التركي، فتلقفت صورته شاشات التلفزة في العالم.

 

في الدقيقة الرابعة في الفيلم، تظهر نسخ متعددة للطفل السمكة الغارق في البحر، يصبح هناك انعكاسات عديدة منه، إنه ليس ولد، بل كل الأولاد السوريين الذين غرقوا في أعماق البحر، جثثاً بين الأسماك، وبقرب التلال الرملية أسفل قاع البحر.

 

كما رأى الولد نفسه في الشاشات، الآن يتحول كل ما رأيناه كمشاهدين عبر دقائق الفيلم إلى صورة في تلفاز، إننا أيضاً كمشاهدين، نجعل من مأساة هؤلاء الأولاد الغارقين فرجة تلفزيونية، وليست هي بالحالات النادرة، بل هي حادثة تتفرج عليها البشرية بشكل متكرر.

 

في اللقطة الأخيرة من الفيلم، تطفو أعداد كبيرة من شاشات التلفزيون التي تعرض صور أطفال غرقى على كامل مساحة سطح البحر أمام عدسة الكاميرا. إنها صدمة بصرية يصنعها الفيلم كي يوقظ المتلقي على مقدار اعتياده على مشاهد الأطفال الغرقى في البحر بينما تتابع التلفزة تشييئهم إلى مجرد صور للفرجة، ولقطات إعلامية.

 

صحيح أن الفيلم يوحي بدايةً بحكاية غير مترابطة، وخارجة عن المنطق السردي التقليدي، إلا أن الموضوعة التي يكتشفها المتلقي لاحقاً، أي الأطفال الغرقى في محاولات اللجوء وعلاقة الإعلام بهم، هي ما تجعل حكاية الفيلم واضحة ومؤثرة ويبين مقدار النجاح في سردها بطريقة مغايرة لما هو متعارف عليه في التعامل مع موضوعة اللاجئين في رحلة البحر وأعداد الغرقى بينهم من الأطفال.

 

عناصر التجريب :

 

 

 


1  - Stop – Motion أو تقنية إيقاف التحريك : تقنية إيقاف الحركة، تعرف أيضاً بتقنية الإطارات الثابتة أو فن التصوير المتعاقب، وهي تقنية تحريك الرسوم والصور عن طريق التلاعب بها لتظهر وكأنها تتحرك ذاتيًا، يحدث ذلك عن طريق تصوير الغرض -الجسم المراد تحريكه- صورًا متعاقبة، مع إضافة تغيير بسيط في كل صورة، بحيث يكون الفرق بين أي صورة والصورة التي تليها هو حركة بسيطة لا تتعدى 1/24 من الثانية من زمن الحركة الطبيعي، وعند عرض هذه الصور بشكل متسلسل وسريع يحدث عند المتفرج إيهام بالحركة. ( المصدر : ويكبيديا )

2  - الفيلم من إنتاج بدايات للفنون السمعية والبصرية.

3  - إنتاج بدايات للفنون السمعية البصرية، ومعجونة للفنون البصرية.

4  - من إنتاج مؤسسة بدايات للفنون السمعية البصرية.

المشاركة
عرض المزيد