مقالات بدايات

تنويعات وثائقيات سورية في السرد والجمالية

30/07/2018

(هل تشعر بأنّك تقتل؟ أم أنّ الأمر وكأنك تلعب؟)، لا يوجد سؤال أكثر أهمية عند  اللقاء مع مقاتل، أو صناعة فيلم عنه

الكاتب: علاء رشيدي

تنويعات وثائقيات سورية في السرد والجمالية

 

تحت عنوان (مجموعات لا مادية)، يقام منذ العام 2015، نشاط وفعاليّة سينمائيّة في  Beirut Art Center، تتناول في كلّ جزء منها موضوع فيتم اختيار مجموعة عروض سينمائيّة تتعلّق بالموضوع، ويتم العمل على إنتاج فيديوهات من قبل الفنانين الراغبين بالمشاركة. هذا الشهر، وفي الجزء العاشر من (مجموعات لا مادية)، توجّه اهتمام مصمّمي الفعالية إلى تقديم أفلام سوريّة، تم اختيار ثلاثة منها من قبل منسقة المشروع (جوي ستايسي)، باحثة مقيمة.

 

في مقدمة بروشور الفعالية نتعرف على السبب من وراء الاهتمام بالأفلام السورية. وهو اقتباس من المفكر (إدوارد سعيد 1935 – 2003)، يتحدّث فيه عن كيفية تشكل الحقائق في المعرفة الانسانية، وكيفية استحالة الاعتماد على راو واحد حتى لو كان كاتباً أو سينمائياً. يرى إدوارد سعيد أن الحقائق تتشكل بالتشاركية والحس الجماعيّ: (شرط الحقيقة أن تتوسع بأشمل من المعيار الفردي، وهذا ما يجعل منها حقيقة).

 

منظمو الفعالية يطبقون اقتباس إدوارد سعيد على السينما السورية، يساءلون الكيفية التي يمكن بها سرد الحدث السوري، يرد في مقدمة البروشور: ( إن سرد آثار الكارثة السورية بمقدار ما هو مستحيل، بمقدار ما هو ضروري. لذلك نقدم اليوم صانعي أفلام  متنوعين، يروون قصصهم بطرق مختلفة، يوظفون الذاتي والحميم، ويلجأون إلى تجاربهم الخاصة ولغتهم الشخصية، للعثور على خصائصهم المميزة في أعمالهم الفنية).

 

إذاً، إنه التساؤل عن كيف يروى الحدث السوري ما دفع المهتمين إلى اختيار هذه الأعمال الفنية الثلاثة. وهو تساؤل ممتع لمبرمجي الفعالية، وأعتقد أن الإجابة عنه واضحة، يروى الحدث السوري بتعدد الرواة، وتنوع أساليب السرد.

 

 

 

 

(خط تماس، 2014، غيّاث حداد وسعيد البطل، 13 دقيقة)

 

يتتبع المخرجان في هذا العمل الشخصيّة التي اختارا أن تشكل موضوع فيلمهما، إنه المقاتل القناص أبو عبدو، المنهمك مع رفاقه في الإعداد لمواجهة متوقعة بينهم وبين قوات النظام.

 

 

في اللقطة الأولى من الفيلم يقدم المخرجان تقنيات تصوير ومونتاج تبدّد قلق المتلقي من كونه أمام تقريرٍ صحفيّ. لأنّ متابعة حياة مقاتل قد يكون موضوعاً مثالياً لتقارير صحفية. على شاشة السينما تظهر اللقطة الأولى من منظار بندقية القناص، تشوش بؤرة التصويب كلما تقطع صوت فيروز على الراديو، يدمج المخرجان إذاً بين تشويش الراديو وتشويش منظار البندقية، ذلك أن الفيلم عن الموسيقى أيضاً بمقدار ما هو عن شخصية أبو عبدو.

 

ينجح المخرجان في التقاط أفعال مجموعة المقاتلين العفوية، وهي محاولة لالتقاط الحياة بانسيابيتها من المزاج الجماعيّ؛ من مثل أحاديث المقاتلين عن موت القذافيّ، ونقاشهم عن المسافة التي تفصلهم عن ساحة العباسيّين. ثم يعود الفيلم بعدها للتركيز على الشخصية الأساسية، أي القناص الذي يحفر في جدران الأبنية للوصول إلى نقطة مناسبة للتمركز عندها.

 

رغم أنَّ حاملَ الكاميرا يطرحُ سؤالاً واحداً أو سؤالين على شخصيّة – موضوع فيلمه، إلا أنه يمكن اعتباره من صنف الوثائقي الرصديّ بحسب تصنيف نوي مندل (1) للأفلام الوثائقية.

 

 

(هل تشعر بأنّك تقتل؟ أم أنّ الأمر وكأنك تلعب؟)، لا يوجد سؤال أكثر أهمية عند  اللقاء مع مقاتل، أو صناعة فيلم عنه. عبر هذا السؤال الموجه إلى أبو عبدو، ندرك أن غاية المخرجين ليست تصوير المقاتل بمثالية الثوري المناضل، ذلك أن التساؤل ينطلق مع المتلقي منذ البداية، لماذا يصور المخرج يوميات مقاتل ؟ هل المخرج ثوري يقدم حملة السلاح بمثالية لأنه يشاركهم القضية ؟ ما الغاية من تقريب المتلقي من حياة المقاتل؟ هذا القلق يتوارد في ذهن المتلقي على طيلة دقائق الفيلم. وحين يوجّه حامل الكاميرا، لحامل البندقية سؤالاً : (هل تلعب أم تقتل بأسى ؟) يتماهى سؤال المتلقي مع سؤال صانع الفيلم. إنه السؤال الأساسي لكي يخرج الفيلم من مدار البروباغندا السياسية.

 

بعد هذا المنعطف، يطمئن متابع الفيلم إلى حيادية المخرج في تسجيل الحدث: إنه وثائقي رصدي بامتياز، ينقل إلى المشاهد أسئلة المخرج نفسها أمام الأحداث التي تصوّرها الكاميرا ما أمكن. دون أن ننسى عنصر الموسيقى الذي لا يقلّ أهميّة عن موضوع المعارك والقتال. عنصر الموسيقى يكوّن خفّة طيلة فترة الفيلم، وخصوصاً في اللقطات الختامية، حيث نسمع مجموعة المقاتلين يتناقشون عن كيفية تحسين صوت الراديو واختيار الأغنيات. ومع شارة النهاية، يقرأ المتلقي العبارة التالية : (توقف أبو عبدو عن القنص، تزوج وأصبح فراناً، ولا يزال يستمع إلى أغاني فيروز)

 

المشهد الأكثر تميزاً في الفيلم، هو تلك اللحظة حيث يستقبل أبو عبدو تلفوناً من والدته، يحدّث فيها عن حاله ويسألها عن حالها، ولكنه لا يرفع عينيه عن منظار بندقية القناص. يجري حوار بين الأم وابنها دون أن تبتعد عين المقاتل عن منظار البندقية. هذه اللقطة تساءل بذكاء حياة المقاتل، وتعبر بعمق عن خصوصيتها. لاشك أن تحقيقها أمام الكاميرا قد تطلب من المخرجين جهوداً في بناء الثقة لعفوية الشخصية، والصبر لانتظار إشارة سردية على هذا القدر من الأهمية.

 

أخيراً، ينقص عنوان الفيلم ما يشير إلى الموضوع الهامّ التي يتناولها بالإضافة إلى حياة المقاتل، ألا وهي الموسيقى. ذلك أننا في هذا الفيلم لسنا على خط التماس فقط، بل نتعرّف على ما يلعب هناك من موسيقى.

 

 

 

( حب في الحصار، 2015، مطر اسماعيل، 16 دقيقة)

 

 

هو الحصار الذي عايشه عشرة آلاف مواطن جنوب العاصمة السورية دمشق على مدى عامين متواصلين. حصار أدى لوفاة أكثر من 200 شخص بسبب نقص المواد الغذائية والأدوية الطبية. يتابع الفيلم حياة عائلة تسعى ما أمكنها البقاء على قيد الحياة، معتمدين على ما تطرحه الأرض من أعشاب، وعلى ما تفيض به القمامة من فضلات.

ربما يوضح عنوان الفيلم المقولة المراد إيصالها عبر مشاهده. ولربما تبدو الفكرة بسيطة، لكن ظروف الحصار البالغة القسوة، تجعل من تجربة اكتشاف الحب عبر أحداث الفيلم، تجربة لا تنسى لأي مشاهد، يتلمس البرهان سينمائياً، وهذا هو أبرز جوانب الفيلم الذي حقق تأثيراً عالياً في  الجمهور، وكتبت عنه العديد من المقالات.

 

 

لا يطرح حامل الكاميرا أي سؤال على أفراد العائلة التي يصورها، ولا يتدخل في سير الأحداث. بحسب تصنيف (نوي مندل) هو من صنف الوثائقي التشاركي، ليس بسبب تدخل حامل الكاميرا، بل السرد  يروى  من وجهة نظر محددة، هي تلك التي يتضمنها عنوان الفيلم، إنّ الكاميرا تحاول ما أمكنها الالتزام بالحياد، لكن هدفها هو رصد الحبّ رغم الحصار.

 

يوفق المخرج على المستوى البصري بتحقيق مراده بدقة، ويحقق بعض الكادرات الجمالية، وخصوصاً في تلك اللقطات التي تصوّر العائلة خارج المنزل، في مسيرهم في الشوارع، حيث ينجح المخرج في إيصال الجو العام في المنطقة المحاصرة، عبر تلك اللقطات التي تنتقل فيها الكاميرا مع العائلة في الحارات، وتنقل الكادرات رسائل أرادها المخرج مرهفة للغاية، تستحق التوقف عندها.

 

بعد أن تابعنا طيلة الفيلم الأوضاع المعيشية القاسية لأفراد هذه العائلة، وحين نرافقهم في تنقلهم في الحي، تعرض الكاميرا للمشاهد عبارات مكتوبة على جدران الأحياء والأماكن العامة ، عبارات من قبيل : (صامدون رغم الحصار) أو (التجويع سلاح الجبناء)، وهي عبارات وشعارات مثالية، لا يمكن التفكير بكيفية مساعدتها وتغييرها لحال العائلة التي تشتد قسوة الظروف عليها.

 

هذه الرسالة، وخلق المفارقة بين وضع العائلة والشعارات الثورية يؤكد على أمرين : مهنية المخرج على مستوى الحياد والموضوعية، وقدرة المخرج على التوسع بأسلوبه السردي في أعماله المستقبلية.

 

 

( على حافة الحياة، 2017، ياسر قصاب، 45 دقيقة)

 

 

يقترح فيلم ( على حافة الحياة) ما هو مغاير سواءً على مستوى الموضوع، أو على مستوى اللغة السينمائية.

 

فقليلة هي الأعمال الفنية التي تناولت عزلة اللاجئ، وخواء المنفى. نادراً ما حاول المهاجرون أو اللاجئون أن ينقلوا تجربتهم ، الذاتية، والشعرية بهذا العمق (2).

 

يترك راوي الفيلم وشريكته الغرفة الحميمة التي جمعت لقاءاتهما الأولى في حلب، ويتوجهان إلى بيروت، ومن ثم لمكان إقامة آخر، في منزل محاط بطريق سفر وغابة شجر. يعتبره صوت الراوي منزل إقامة في اللامكان، فيقول : (صوت الشاحنات يلي ما بيوقف بيعمل حالة من الخدر، كأني موجود على طرف الحياة، برا الزمان والمكان، والأسئلة عم تكتر، ليش أجيت لهالمكان، ما عاد عندي أي رغبة بالكلام).

 

وصف الفيلم بأكثر من نص بأنه فيلم ذاتي – شاعري. وهذا ينطبق على ما تعرف به ( نوي  مندل) صنف الوثائقي الشاعري : "هو ذلك الصنف الذي يستعمل المواد الخارجية للتعبير عن داخلية المخرج"

 

تتكامل عناصر اللغة السينمائية لتحقيق هذه الذاتية والشعرية في أسلوب  الفيلم، من إضاءة اللقطات، إلى معادلات الظل والنور، مروراً بالمونولوجات الداخلية التي تستعمل للتعبير عن المشاعر والأفكار وتتجنب بذكاء سرد الأحداث. هي مهارة إخراجية في الخيارات للوصول إلى الحالة الشعورية والشعرية المراد نقلها إلى المتلقي، وهنا عبارات يسردها الراوي بصوته  : (قدام المراية، بتمنى أنو ما تنعكس صورتي، ويطلع كل شي مجرد كابوس، بتمنى فيق ولاقي حالي بغير هالزمان).

 

منذ اللقطة الأولى في الفيلم يعتمد المخرج على كادرات شعرية، شباك غرفته الحميمية مع ورد الياسمين في حلب، إضاءة الليل في شوارع بيروت، تفاصيل من الغابة القريبة من منزله، ومشهد النهاية التأملي من شباك قطار.

لا يدرك المتلقي منذ البداية السبب خلف هذه اللغة السينمائية، وخصوصاً أنها تفرض على الفيلم إيقاعاً بطيئاً، يظهر في نهاية الفيلم أنه يخدم المقولة التي يرغب صانع الفيلم بنسجها، أي خواء المنفى بلا قضية، وإيقاع السكون بعيداً عن الأحلام والنضال.

 

لكن كيف نعبر عن السكون والخواء عبر السينما، الوسيط الذي تعتمد على الصورة والحدث؟ لهذه الغاية يصور المخرج الأفعال اليومية، يوسّع الكادر ليظهر للمشاهد مساحات من الفراغ، يختار أفعالاً يومية تتسم بالعبثية، مثل مكنسة تحاول جمع غبار على طرف الطريق، إطعام القطة مرة تلو الأخرى، تأمل المطر من الشباك، ولقطة لفراشة عالقة في زجاج الضوء توحي باللاجدوى بشكل رمزيّ جليّ. أفلام مرجعية ربما تساعد القارئ على تخيل هذا الأسلوب السينمائي منها : (الأيام الأخيرة، 2005) فيلم المخرج (غاس فان سانت) عن (كيرت كوبين)، ورائعة المخرج الفلسطيني ( إيليا سليمان) بعنوان : (الزمن الباقي ، 2009 .

 

تضيف (نوي مندل) ميزةً غير متوقعة لصنف الوثائقي الشاعري، وهي إمكانية تضمينه لمقولات سياسية. ربما تبدو هذه ميزة متناقضة مع الذاتية الشعرية، لكن لاشك أن فيلم (على حافة الحياة) برهان جيد على دقتها. فالفيلم يبيّن بوضوح أن فقدان القضية السياسية تجربة قاسية  لللشعور بالفراغ، فهاهي العبارات الأخيرة التي ينطق الراوي بها: (أنا غير الشخص يلي ترك سورية بعمر 25، غير الشخص يلي كان بدو يحكي عن الحرية والوطن. أنا مجرد جسد، جسد بدون قضية، بدون روح، بدون مشاعر. جسد غير قادر على البكاء، محمل بالعجز واللاجدوى، سرقت منه الحياة والذكريات).

 

في خاتمة الكتابة عن فيلم (على حافة الحياة )، وإن كان صانعه حقاً يشعر كما قال بصوت الراوي، بأنه جسد بلا قضية، فإن هذا الفيلم يسمح لنا بأن نقترح عليه السينما، وصناعة الأفلام كأكمل قضية.

 

 

 

 

 

[1]  - نوي مندل : مؤسسة ومديرة المعهد الإسكتلندي للأفلام الوثائقية. قدمت محاضرتان مصورتان فيديو على موقع بدايات تشرح فيهما : أولً : ما هو الوثائقي الإبداعي ؟ وفي الثاني : تشرح منهجها في تصنيف الأفلام الوثائقية إلى ستة أصناف أساسية : الوثائقي الرصدي، التشاركي، الشاعري، التأملي، الفكري، واليوميات المصورة. طبعاً، توضح نوي مندل أن تحديد الأصناف لمجرد المعرفة والإدراك، أما في الأعمال الفنية فإن التداخل والتمازج بين الأصناف يعتبر إضافةً خلاقة.

[2]  -  من النصوص المتميزة التي تتناول موضوعة الخواء، الضجر في المنفى، نص بعنوان ( الإرتطام بالمنفى، 2015 )، وآخر بعنوان ( فيما كنت أسميه منفى، 2016 )، من كتابة ضحى حسن. يمكن الإطلاع على النصين في موقع الجمهورية نت.

المشاركة
عرض المزيد